لطائف من السّيرة المنيفة

لطائف من السّيرة المنيفة

أحمد بن عبد المحسن العساف @ahmalassaf

في يوم من خواتيم سنة مضت، دخلت إلى مكتبتي، فالخلوة في المكتبة، والنّظر إلى الكتب متعة فائقة، وإذا ترافق معها قراءة زاد الإمتاع، وستبلغ الّلذة القمّة في الحوار مع المؤلفين، على اختلاف أعصارهم، وثقافاتهم، وبلدانهم، وفنونهم.السيرة 1.jpg

وحين نظرت إلى كتب السّيرة النّبويّة العطرة، لمت نفسي على تقصيري في قراءة كتاب كامل غير مختصر، فقررت قراءة الرّوض الأنف للإمام السّهيلي، ويقع في سبعة أجزاء، وكنت قد اشتريته قبل ربع قرن تقريبًا، وما أعظم تقصيرنا تجاه سيرة خير خلق الله قاطبة.

وأخذت الجزء الأول، ووضعته أمامي على أن أشرع بقراءته ابتداءً من غرّة المحرّم القريب، وأنهي الأجزاء السّبعة خلال عام واحد؛ بيد أنّي لم أفعل، وظلّ الكتاب طريحًا أمامي لأزيد من عامين، حتى حضرت برنامجًا تدريبيًا، واستفدت منه عمليًا ما كنّا نسمعه عن قاعدة “عشر دقائق يوميًا”.

وبفضل الله، ثمّ بالاستمرار في القراءة لمدة عشر دقائق يوميًا، أنهيت قراءة الكتاب كاملًا في أقلّ من عام. وخلال القراءة، كتبت بعض التّدوينات المختصرة على تويتر في وسم نافع المحتوى بعنوان من لطائف السّيرة، وما أحرانا بتنقية هذه المنصّات من الغثاء والهباء والبلاء، والله يكتب الأجر والمثوبة لمن أحسن عملًا.

وتوافقت بعض التّدوينات مع مناسبات بالصّدفة دونما ترتيب، لأنّها مرتبطة بوقت القراءة، ولم أكتب كلّ فائدة خطرت لي، وكم نحن بحاجة للاغتراف من معين هذه السّيرة العذبة. وسأسرد الّلطائف أدناه بلا إشارة إلى موضعها من مجريات السّيرة الكريمة، والغاية بعد الاختصار، تحفيز القارئ الموفق إلى الخلوة مع سيرة إمامنا وقدوتنا صلّى الله عليه وسلم، والنّهل من نميرها العذب، فمنها:

1. حرص كفار مكة على تشويه صورة الجناب الكريم، وحجز النّاس عنه، فلم يفلحوا، لأنّ التّاريخ، والحاضر يشفعان لصاحبهما.

2. اجتهد صناديد قريش لكسر إرادة المسلمين، وسحق كرامتهم، والاعتداء على حقوقهم الطبيعيّة، فكان الصّبر مع الإيمان درعين ضدّ عدوان المجرمين.

3. استخدمت قريش جميع صنوف العذاب المادي والمعنوي، الفردي والجماعي، فلم تفلح؛ لأنّهم يحاربون دعوة سماويّة منصورة ولابد.

4. تعاضد المشركون واليهود والمنافقون ثنائيًا أو بالاشتراك، وبالتّواصل مع القوى المحيطة أو الكبرى، وغايتهم إطفاء نور الله، فآبوا ببوار وخسران، وبقي الإسلام ينير الدّيار والقلوب، فمن يجرؤ على حرب دين كتب الله له النّصرة والغلبة؟!

5. من ملامح السّيرة خلال المرحلة المدنيّة نجد أنّه لا أمان لليهود مهما كتبوا وعاهدوا.

6. ‏اتضح من خلال الفترة المدنيّة أنّ المنافقين بارعون في استخدام الأحداث، وقلب الحقائق، وسوق الشّبه على سبيل الاحتجاج.

7. أبرم النّبي صلح الحديبية لمدة عشر سنوات، وظاهر الصّلح انكسار للمسلمين، فنقضه الكفّار، وفتحت مكة بعد عامين، ودانت عموم الجزيرة خلال عشرة أعوام! إنّه تدبير رباني!

8. للتّاريخ حق متين، وللأسبقيّة واجب الرّعاية، ولذلك أكرم النّبي عليه الصّلاة والسّلام السّابقين من أصحابه، والمهاجرين والأنصار، والبدريين، ودافع عنهم.

9. أرضى النّبي الكريم جميع أزواجه حتى بعد أن فارقن الحياة، وكانت لخديجة وصاحباتها مكانة خاصة لديه.

10. أحيانًا، تحول موانع دون أن تفعل أو أن تقول، بيد أنّ الله يوفق الصّادقين المخلصين لمخرج، ومنه قوله عليه الصّلاة والسّلام، لأبي بصير رضي الله عنه، حين أعاده لقريش: مسعر حرب لو كان معه رجال!

11. ‏مع عظمة النّبي إلّا أنّه لم يقل أو يفعل ما يدل على أنّه المحرك الوحيد لدولته وأفرادها، بل كان معه الوحي المقدّس، وكبار الصّحابة، وسائرهم، والمصلحة المعتبرة، ومقتضى الحال، وواجب الوقت.

12. صفح الرّسول عمّن يصلحه الصّفح مثل طلقاء قريش، وعاقب من لا يزجره إلّا العقاب مثل يهود المدينة، فالمسألة موقفية، وخاضعة للمصلحة الشّرعيّة إذا عدم النّص الصّريح الصّحيح.

13. أنف المشركون من تسوّر بيت النّبي عليه الصّلاة والسّلام هروبًا من عار اقتحام منزل فيه نساء!‬

14. عندما لطم أبو جهل أسماء رضي الله عنها طلب ممن شاهده أن يكتم فعلته الوقحة! فحتى في جاهليتهم وعدائهم كانت لهم حدود وأعراف!

15. إنّك لتكسب المعدوم: وصف قيل عن الرّسول والصدّيق، فما أجدر التّجار وروّاد الأعمال بالاقتداء بهما: من خلال إرشاد الشّباب ومشاركتهم.

16. ‏أسلم حمزة وأعز الله به المسلمين مع أنّ إسلامه جاء في سياق غضبة وحميّة!‬ وأسلم أبو محذورة وأصبح مؤذنًا مع أنّ مبتدأ أمره كان الاستهزاء بالآذان! فالهداية بيد الله، وقلوب العباد طوع أمره.

17. حين أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما تغيرت الموازين، وقويت أوراق الجماعة المؤمنة، وإنّ مراعاة الحال لواجب وحكمة.

18. ‬قال عمرو بن أمية الضّمري للنّجاشي رضي الله عنهما: عليّ القول وعليك الاستماع: إنّك كأنّك في الرّقة علينا منّا! وكأنّا بالثّقة بك منك؛ فلم نظن بك خيرًا إلّا نلناه، ولم نخفك على شيء إلّا أمناه، فما أجملها من علاقة!

19. ‏استقوى مشرك بأسلحته لمقاومة الفاتحين، فأظهرت زوجه شكوكها في جدواها، بينما وعدها الرّجل بأن يجعل بعضهم خدمًا لها!‬ ولم يلبث أن عاد إليها مذعورًا منهزمًا يبحث عن خباء يختفي فيه، فقالت له: أين ماكنت تقول؟!

20. ‏في قصّة وفد مضر، دخل النّبي عليه السّلام إلى بيوته ثمّ خرج دون أن يجد شيئًا يقدّمه لهم؛ فخطب النّاس وحثّهم على الصّدقة، فقد‬ بدأ بنفسه قبل النّاس! وليس في بيوته جميعها شيء وهو من هو!

21. قيّم نفسك حسب مقياس خديجة: تصل الرحم؟ تصدق الحديث؟ تؤدي الأمانة؟ تحمل الكل؟ تقري الضّيف؟ تعين على نوائب الحق؟ والنّتيجة: لا يخزيك الله أبدا!

22. رفض النّبي إطباق الجبال على المشركين أملًا في أن يخرج من أصلابهم جيل مؤمن، وصنيعه هذا فيه رحمة، تفاؤل، استشراف، بعد نظر! أين منها المقتدون؟!

23. أصيب صحابي شاب بجرح في معركة أحد‬ فأتي به لداره والنّاس يبشرونه بخير؛ فقال أبوه وهو منافق طاعن بالسّن: بأيّ شيء تبشرونه وقد غررتم هذا الغلام من نفسه؟!‬ منطق النّفاق ولغته واحدة!

24. ‏إذا كان لك عمل عام مشين، ثم وفقك الله للتوبة، فاجتهد في عمل عام راشد، فوحشي إبّان كفره قتل حمزة عمّ النّبي عليه السّلام، ورضي الله عنهما، وحين أسلم قتل مسيلمة مدعي النّبوة.

25. ‏نصح أبو سفيان قريشًا بالاستسلام قبيل فتح مكة‬؛ لكنّ زوجه عارضته، فكرر رأيه وحذرهم من الاغترار برأيها، فآراء الشّاطحين بسبب موقف، أو أمنية، أو حقد قديم لا قيمة لها!‬ ‬‬
26. ‏أشاع الكفار في معركة أحد أنّهم قتلوا النّبي عليه السّلام لتوهين الصّحابة بحرب نفسيّة، فكان كيدهم سبب سلوان الأصحاب عن قتلاهم لما تحققوا من حياة الرّسول، وانقلب مكر المشركين عليهم!‬ ‬‬

27. ‏اشيروا عليّ أيها النّاس! كررها النّبي عليه السّلام في معركة بدر،‬ والتّلميح فنٌّ يخاطب به أصحابُ الأخلاق العظيمة، كرامَ بني آدم وأذكياءهم ابتعادًا عن المباشرة التي قد تحرج أو تجرح!‬ ‬‬

28. ‏أيقن بعض أكابر قريش في قرارة نفوسهم، بصدق النّبي ودعوته، بيد أنّهم كابروا بالجحود والشّرك، فمات بعضهم كافرًا، وتأخر إسلام آخرون ففاتهم خير كثير، ألا ما أخسر الكِبر من خلق!‬

29. ‏لسعد بن معاذ رضي الله عنه مواقف عظيمة، لكنّ أعظمها موقفه من خيانة يهود المدينة،‬ فقدر كبار أمتنا أن يكون لهم موقف صدق مع أعاديها.السيرة 2

30. ‏اعتدى بنو قينقاع على مسلمة محاولين كشف وجهها ثمّ جسدها، فانتقض العهد معهم!‬ ومن جرائم ابن الأشرف التي أوجبت اغتياله تشبيبه بنساء المسلمين وتغزلّه بهن! حفظ العرض مقصد شرعي، والغيرة المنضبطة على المحارم من المكارم وكمالات الرّجال!

31. غضب البعض من جيش مؤتة، ووصفهم بالفرّارين، بيد أنّ القائد العظيم، صاحب النّظرة الإيجابيّة، نفى عنهم ذلك ووصفهم بالبطولة والكر!‬ القيادة نظر بعيد، وقول رشيد، وتقدير موقف.

32. ‏مهما بلغ سوء القوم؛ فقد يكون فيهم مثل مؤمن آل فرعون، وعبد الله بن سلام، ومخيريق، رضي الله عنهم، فلا تيأسن من حال وفئام.‬

33. حضرت المرأة في السّيرة بقوة؛ لأنّها شريكة الرّجل في المجتمع والتّكليف، فتقدّمت بالخير حين آمنت، ونصرت، وأنفقت، وعُرفت بالسّوء حمّالة الحطب!‬ ‬‬

34. ‏لقي النّبي وصحبه من كفار مكة سخرية وصدًا وحصرًا وتعذيبًا وتهجيرًا، ثمّ دخلوها فاتحين بعد ثمان، فحجّاجًا مع مئة ألف، والظّفر مع الصّبر!

35. إنّ حَمَلة مشاعل الإصلاح يحتاجون إلى سند عاطفي في بيوتهم كما فعلت خديجة، وإلى سند اجتماعي في محيطهم كما صنع أبو طالب وغيره.‬

36. حاول رسولا قريش إلى النّجاشي الحيلولة بينه وبين السّماع من المسلمين، واشتروا البطارقة، لكنّ الملك تجاوز المكر والغش والظّلم من حاشيته التي يفترض أن تكون ناصحة له، صادقة معه!

37. كان عليه الصّلاة والسّلام يهجر قريشًا قبل البعثة ويتحنّث، فلمّا بُعث بعين الحق الذي يخالف قومه، خالطهم وغشى مجالسهم داعيًا صابرًا.

38. من مميزات شخصيّة الجناب الكريم أنّها محل القدوة في كلّ جانب، فرحمته وغضبته قدوة، وسلمه وحربه أسوة، وقيادته وأبوته كذلك، وهكذا.

39. ‏أمر النّبي صحابته بالاضطباع والرّمل في عمرة القضاء كي يعاين كفّار قريش قوة المسلمين، وليقطع على المشركين نشوة الفرح الحقيقي أو المتوهم بالانتصار،‬ لأنّ قوتك المعنويّة أو الماديّة تحزن عدوك، وتفسد على خصمك لذة تفوقه عليك!

40. مع شدّة كفّار الطّائف على النّبي صلى الله عليه وسلّم؛ طلب الملائكة والنّاس منه أن يدعو عليهم في موقفين، فأبى وسأل الله لهم ولأجيالهم الهداية، فالمصلح لا يحقد، ولا ييأس، ولا ينتصر لشخصه، ونظرته مستقبليّة.

41. ‏بدرت من بعض الزّعماء حديثي الإسلام كلمات مريبة خلال غزوة حنين‬ والطّائف، وبسؤال بعضهم تبين أنّهم شاركوا طلبًا لمغانم خاصّة فقط!‬ ‬ ليس كلّ من كان معك يشاركك في غاياتك!‬ ‬

42. لم يرض زعيم من المؤلّفة قلوبهم بما أعطي، فقال النّبي عليه الصّلاة والسّلام لصحابته: اقطعوا عنّي لسانه! فأعطوه حتى رضي وسكت. المال، والعطاء، والكرم، يسكن النّفوس، ويكبت شرها، ويشبع شرهها.

43. أخذ المؤلّفة قلوبهم نصيبهم من المال والأنعام ثمّ أكلوه وأفنوه، وحاز الأنصار شرف الاختصاص بالجناب الكريم، وهو مجد باق لهم أبد الدّهر.

44. استثمر المنافقون المرأة في مواضع كثيرة دون أخذ أذنها أو مراعاة مصلحتها، فلأجل البلبلة وإشاعة السّوء افتروا حادثة الإفك، وللنّكوص عن الجهاد تذرعوا بالخوف من الفتنة!

45. ‏جاءت حليمة السّعدية رضوان الله عليها إلى مكة، وهي أقلّ رفيقاتها في الدّابة والمال والحال، وكان نصيبها طفلًا يتيمًا خلافًا لصاحباتها، لكنّ الله جعل البركة لها ومعها وحولها ببركة وجود النّبي عليه الصّلاة والسّلام وإرضاعه، وخيرة الله واختياره خير لنا!

46. ادعى المنافقون أنّهم بنوا مسجد الضّرار‬ لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والشّاتية، لكنّ الله كذبهم وفضحهم،‬ فسوق أسباب وجيهة لا يزكي العمل، ولا يبرئ النّية من الشّوائب.

47. حين بنى المنافقون مسجد الضّرار‬ اختاروا له إمامًا حافظًا تقيًا ليس منهم، واستثمروا غفلته عن مرادهم!‬ ‬وعلى كلّ مؤمن أن يحذر من استخدامه جسرًا أو مطيّة أو غطاء!‬ ‬

48. بعض النّخب والوجهاء من كفار قريش لم يوافقوا قومهم على جورهم وإيذائهم للنّبي وصحبه، وإنّ مصداقية نخبويتك ووجاهتك تظهر في مواقفك مع العدل، وحسن العهد، والخلق النّبيل، بغض النّظر عن الحب والبغض.

49. ‏من أعظم الجنائز جنازة عبد الله ذي البجادين المزني، حفر قبره الرّسول عليه السّلام وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وهيأه النّبي داخل قبره بعد أن دلّاه العمران، ودعى له بالرّضوان، وإنّه ليغبط.‬السيرة 3

50. المؤمن لا يخون دينه وبلاده وقومه، ولذلك حين قال ملك غسّان في رسالته لكعب بن مالك رضي الله عنه: الحق بنا نواسك! كان جوابه الفصيح تسجير الرّقعة في التّنور، فمهما اختلفنا لا مكان للعدو والغريب في شؤننا.‬

51. استفهم النّبي عليه الصّلاة والسّلام من فتيان قريش عن عدد ما ينحرونه من الإبل يوميًا فأخبروه، فعرف أن تعدادهم في معركة بدر‬ بين التّسعمئة والألف.‬ الإحصاء والاستقراء مجلبتان للمعلومة، وامتلاك المعلومة قوّة.‬

52. مشاركة النّاس في مناسباتهم، والتّعبير الّلفظي والعملي عن مشاعرك، حسنة ولطف وأثر يبقى، ولذلك لم ينس كعب بن مالك لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما، قيامه وتحيته وتهنئته بتوبة الله على كعب.

53. كم من مشرك كره النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ انقلب البغض إلى حب شديد بمجرد رؤية الجناب الكريم، أو حدوث أوّل موقف معه، فسبحان القدير الذي جعل للصّالحين المصلحين مودّة في القلوب‬.

54. يمارس السّياسي المسلم أعماله وفي ذهنه تحقيق المصالح الشّرعية العليا العامة، ودفع الضّرر أو تخفيفه، ولذلك يعاهد، ويحالف، ويسالم، ويوالي، ويعادي، ويحارب، وكلّ ذلك بإرادته المستقلة.

55. سأل النّبي عليه السّلام وفدًا من العرب عن سر انتصاراتهم في الجاهلية فقالوا: كنّا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدًا بظلم!

56. لم يوقر الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا مقام النّبوة، ولا بيته، فما ظنّكم بسلوكهم مع مقام دونه، ومع باقي البيوت؟!

57. ‏في خطبة حجّة الوداع ذكر النّبي عليه السّلام شهر رجب بطريقة لا لبس فيها، فهو رجب مضر، وهو الواقع بين شعبان وجمادى!‬ ليكن أمرك واضحًا وأنت قائد، وتعليمك كاملًا وأنت معلّم‬.

58. بعث النّبي عليه السّلام سفراءه، ومنهم دحيّة لقيصر، فقال له: اسمع بذل، ثمّ أجب بنصح، فإنّك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف!

59. بعد وفاة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ارتدت العرب، واشرأبت اليهود والنّصارى، وانتفخ النّفاق، وصار المسلمون كغنم مطيرة في ليلة شاتية! فجمعهم الله بأبي بكر والمهاجرين والأنصار، فللسّابقين مواقف ومواقع.

60. العمل المؤسسي يقوم على مبادئ ونظم لا على أشخاص مهما كانت منزلتهم عالية.

61. في السّيرة المحمّدية فقه، وسياسة، واقتصاد، وتربية، وتعليم، وجهاد، ومجتمع، وعلاقات دوليّة، وإدارة، وما أحوجنا لها أيًا كانت مواقعنا.

62. جعل الله نبيه بشرًا كغيره في الجبلّة البشريّة، يأكل وينام ويتزوج ويطلق ويبيع ويشتري، وهكذا من سار على دربه من العلماء والدّعاة والمصلحين.

63. مات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يعمّر كثيرًا، وقضى ثلث عمره تقريبًا في النّبوة، وبإمكان كلّ ذي رسالة أن يبلغها ويجتهد في ذلك، ومن الله العون والسّداد.


وليست هذه كل ما في السّيرة الطّاهرة من فوائد ودروس وعبر، وإنّي لآمل أن ينهض القارئ إلى كتاب مختصر أو متوسط أو مطول، في السّيرة، أو الهدي، أو الشّمائل، أو الدّلائل، فيقرأ منه، ويفيد من حوله، فو الله إنّها لمنقصة عظيمة ألّا تعرف أجيالنا عن رسولنا عليه الصّلاة والسّلام إلّا اسمه وربمّا الأوّل فقط!


أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض ahmalassaf@
الأربعاء 12 من شهر ذي القعدة الحرام عام 1439
25 من شهر يوليو عام 2018م

رابط المحدث

الرابط الأصلي

نماذج مِن حلم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

نماذج مِن حلم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة حافلة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك:خلق عظيم 2

– قصَّة الأعرابي الذي جبذ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه (1) بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء)) (2) .

– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا. ثمَّ قال: أعطوه سِنًّا مِثْل سِنِّه، قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلَّا أمثل مِن سِنِّه، فقال: أعطوه، فإنَّ مِن خيركم أحسنكم قضاءً)) (3) .

– وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كأنِّي أنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) (4) .

قال النَّوويُّ: (فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبيُّ المشار إليه مِن المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد) (5) .

– وعن أنس رضي الله عنه قال: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟ )) (6) .

– وعن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا )) (7) .

– وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْمًا، إذ أتاه ذو الخُوَيصرة -رجل مِن بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومَن يعدل إن لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل، فمن يعدل؟! فقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْه، فإنَّ له أصحابًا يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم (8) ، يمرقون مِن الإسلام كما يمرُق السَّهم مِن الرَّميَّة (9) ، ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ إلى رِصَافِهِ، فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى نَضِيَّة -وهو قِدْحه- فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى قُذَذِه (10) فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ (11) ويخرجون على حين فُــرْقة مِن النَّاس. قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتَلَهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل فالتُمس، فأُتي به حتى نظرتُ إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت)) (12) .

– وعن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّة بالسِّلاح مِن قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأُخذوا، قال عفَّان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]) (13) .

– وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن اليهود، فاشتكى لذلك أيَّامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السَّلام، فقال: إنَّ رجلًا مِن اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها مَن يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله تعالى عنه، فاستخرجها، فجاءه بها فحلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه حتى مات (14) .

– وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: علي، قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (15) .

الرابط لأصلي

أثر الإسلام في العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

أثر الإسلام في العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

MAIN_Khoulafa

تقدم الإسلام وسبيل العرب إلى المدنية:

أجملنا في القسم الأول من (بشائر الإسلام) الأحوالَ التي مهدت لظهور الإسلام وأسباب ظهوره في العرب، والمصاعب التي أحاطت به في نشوئه ومراحل النجاح التي قطعها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بقي أن نواصل البحث في هذا الفصل حتى ننتهي ببشائر الإسلام إلى ما انتهت إليه، أو انتهى بها العرب من ذُرى المدنية والرقي. ولعل كثيرين من القراء يأخذون على هذا البحث وسابقه الإجمال المفرط في بعض المواضع، والحقيقة أنه اقتضاب مقصود إذ كان الغرض استخلاص النتائج البارزة لا سرد التفاصيل.

فإيفاء تاريخ الإسلام حقه من البحث والتحليل والنقد يستغرق المجلدات، فإذا عرض لبعض نواحيه في مجلة شهرية كهذه المجلة لا يمكن أن يكون ذلك إلا على سبيل إعطاء فكرة) تكون نواة صالحة لبحث مستفيض يعنى به أرباب الاختصاص فيكون أوفى بياناً وأقوى حجة وأوضح فكرة.

وحسب القراء الأفاضل من هذه الفصول سداد من عوز، وغذاء للروح.

أثر الإسلام في العرب في عهد رسول الله:

لقد كان للإسلام تأثير عميق في قلوب المؤمنين الأولين. هذا التأثير كشفت عنه تلك المحن التي صابروا رسول الله عليها نحواً من عشرين سنة طيبة نفوسهم بالفداء في سبيل الله وفي سبيله. ولم يكن ذلك الإيمان عن وعد أو وعيد فيتقيد بهما، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى بدعوته – في أول الأمر – غير الصفوة الممتازة من رجالات قريش عقلاً وخلقاً وسدد رأي، فلم يكن يؤمن الواحد منهم إلا مقتنعاً بصدق دعوته، موطناً النفس على التضحية في كل شيء في سبيل عقيدته. فقام الإسلام حين قام على أثبت الأسس وأرسخ الدعائم وظل يصعد في أناة وإحكام حتى خرج آخر الأمر كأفضل ما يخرج البناء من يد أحذق المعمارين، لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.

ولقد كان لحسن الاختيار هذا لأشخاص أول المؤمنين الأثر الأكبر في سرعة انتشار الإسلام بين العرب بعامل القدوة، ونمو الإيمان ورسوخ الإسلام في صدور الداخلين فيه. فلم يكن مضي الأيام ليزيد تلك العقيدة إلا قوة، وقلوب المؤمنين إلا صفاء. ولم يكد يمضي على إعلان الدعوة سنوات حتى بدأت ثمرات الإيمان تعلن عن نفسها؛ وتتكشف من خلال الحوادث عن تلك الخلال الفريدة والمزايا العالية التي كان يتطلبها الإسلام فيمن يحمل رسالته ويرفع رايته، ويحمي في مدى العصور حوزته. فكان استظهار ما ينـزل من القرآن الكريم والعناية بكتابته بوسائل ذلك العهد، الشغل الشاغل للنبي عليه السلام وصحبه وكانت ثقتهم بوعد الله من إحدى الحسنيين: شرف النصر أو شرف الاستشهاد أثناء ذلك الكفاح العصيب، تجعل الموت أحب إليهم من الحياة.

ولقد ربط الإسلام بين قلوبهم بحبل متين من الأخوة والإخلاص والإيثار كما قال الله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29] وإليك أمثلة من هذه النفسية التي هذبها الإسلام وتشربت بروحه على جدة وحداثة عهد هي في الوقت نفسه شواهد من التفاني في سبيل الله والاعتزاز بدين الحق ومحبة رسول الله:

1- استشار رسول الله عليه السلام الأنصار ليخرج بهم إلى حرب قريش لأول مرة (وقعة بدر الكبرى) ولم تكن بيعة الأنصار إلا أن يمنعوه ما دام فيهم؛ فأجابه المقداد بن عمرو بقوله:(امض يا رسول الله لما أمرك الله، فنحن معك! والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾! ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه). وقد أمد الله المسلمين في هذه الواقعة فهزم المسلمون – وعددهم 314 – ثلاثة أمثالهم من المشركين.

2- وقد مر رسول الله عند انصرافه من وقعة أحد بامرأة من بني دينار، من الأنصار، أصيب زوجها وأخوها وأبوها. فلما نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فأشير إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. وفي هذه الواقعة – وقعة أحد – التي أصيب فيها شخص رسول الله بأشد ما يصاب به محارب من الأذى، حتى وقف دونه خمسة من الأنصار يدفعون عنه، وقد انحنى أحدهم وهو أبو دجانة فوقه والنبل يقع في ظهره ولا يتحول، ووقفت نسيبة بنت كعب تذب عنه بالسيف وترمي عن القوس حتى جرحت جرحاً شديداً؛ وقد كانت تسقي الماء أول النهار فلما رأت هزيمة المسلمين انحازت إلى رسول الله تدفع عنه كأصدق ما يكون دفاع الأبطال.

3- استشار رسول الله عليه السلام في إعطاء ثلث ثمار المدينة لقائدي غطفان لينصرفا بجيوشهما عن حصار المدينة، في واقعة الخندق، وقد اجتمعت عليهم الأحزاب، فأجابه سعد بن معاذ بقوله: (يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله ما نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم) وصبروا في وجه الحصار، وقد جاءهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى أوقع الله الخلاف في عدوهم وسلط الريح عليهم فانصرفوا ولم يمسس المسلمين بفضل الله سوء.

هذه صور لمظاهر الصدق والإخلاص في العقيدة والإيمان ومحبة رسول الله، نوردها كمثال لنفسية المسلمين في أيام الشدة والعسر والقلة. وقد نمت فيهم هذه الروح بما حقق الله لهم ولرسوله من نصر وبما أعز به دينه بعد دخول أكابر قريش المتخلفين من قبل الفتح، أمثال أبي سفيان، في الإسلام ومتابعة الناس لهم من قريش وسائر العرب في ذلك.

فلما كانت حجة الوداع، ونـزول خاتمة الكتاب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوشك أن يفرغ من أداء رسالته الكبرى، وقد أودع أمانته: كتاب الله الجامع لشرعة الإسلام، رجالاً من هذا الطراز الممتاز، نشأوا تحت كنفه وتطبعوا بطابع الإسلام وخلقه، لم يكن شيء أحب لديهم من المضي في سبيل تلك الدعوة التي شرع رسول الله يوجهها إلى ملوك الأمم قبيل وفاته، (رجالاً صبراً في الحرب، صدقاً عند اللقاء، لو استعرض بهم البحر لخاضوه، ما يتخلف منهم أحد)، أمرهم شورى بينهم، يسعى بذمتهم أدناهم، تجردت صدورهم من كل هوى وغرض، وقد ألف بينها الإيمان وساوى بينها الإسلام، فلا فضل لأحدهم على أحدهم إلا بالتقوى.

وقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم درساً وتمحيصاً لهم، فلما لقي ربه، كان فيهم خير خلف يقيم العرب على ذلك النهج ويحملهم على تطبيق ذلك الدرس، وتلقينه لغيرهم من الأمم. وقد شاء الله أن يكون نمو هذا الدين وانتشاره على أيدي رجال لا تميزهم (النبوة) عن غيرهم ليكون عملهم في ذلك، وتكون دولة الإسلام القائمة على سواعدهم قدوة لغيره. (فلم يرد في كتاب الله أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تلك الأوامر (العامة) التي تتناول الخلافة وغيرها. كأن الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلوه بأنفسهم ولو لم يكن الأمر كذلك لمهدت قواعده، وأوضحت سبله كما أوضحت سبل الصلاة والصيام وغيرهما).

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله كان العرب المسلمون في قلة: عدداً وعدة، ولكنهم كانوا من الاعتزاز بدين الله والثقة بنصره والتفاني في سبيل الذود عنه حيث كانوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأحد والخندق.

بهذه العقيدة الراسخة والنيات الصالحة والتعاون على البر والتقوى والحرص على كتاب الله، تقدم خلفاء رسول الله ليتمموا رسالته، وينشروا دعوته، ويضعوا حجر الأساس لبناء ملك العرب ودولة المسلمين.

مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السادس، 1356هـ – 1937م

رابط الموضوع:

 http://www.alukah.net/culture/0/99615/#ixzz5HzG5M0M9

أصحاب الفيل

خطبة عن أصحاب الفيل

Elephant Soora

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأحْزَابَ وَحْدَهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَفَعَ رَايَةَ الدِّينِ، وَوَعَدَ مَنْ نَصَرَهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، فَقَالَ: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]- {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَهُ الْأَوَّلِينَ والآخِرِينَ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إمَامُ الْمُتَّقِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ.. أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَالْخَيْرُ وَالسَّلاَمَةُ فِي طَاعَتِهِ، وَالشَّرُّ وَالنَّدَامَةُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ، فَمَنْ أَحْسَنَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، هَلْ سَمِعْتُمْ بِمَنْ عَلا فِي الْأَرْضِ وَتَجَبَّرَ، وَسَامَ النَّاسَ الْعَذَابَ وَتَبَخْتَرَ مَا فَعَلَ اللهُ بِهِ؟ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُجْرِمُ لِيَفْلِتَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِيهِ، سُنَّةِ التَّدْمِيرِ وَالْإِبَادَةِ، وَالْإِفْنَاءِ وَالنَّكَالِ، حَتَّى جَعَلَهُمُ اللهُ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ، وَسُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ لَقَدْ مَرَّ عَلَى الْحَيَاةِ عَمَالِقَةٌ وَأَشْرَارٌ، فَاغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ! وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟! فَحَلَّتْ بِهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الظَّالِمِينَ…

عِبَادَ اللهِ، لَا يَزَالُ الْمَكْرُ بالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مُنْذُ أَنْ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ)، وَغَزَوَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ هِيَ أكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا الْمَكْرَ يَبُوءُ بِالْفَشَلِ إِذْ إِنَّ رَبَّكُمْ جَلَّ وَعَلاَ يَقُولُ ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].

وَقَدْ سَجَّلَ التَّارِيخُ لَنَا صُوَرًا لِلنَّصْرِ يَكَادُ الْعَقْلُ يَعْجَزُ عَنْ إِدْرَاكِهَا؛ فَجَيْشٌ قِوَامُهُ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ يَقِفُ أَمَامَ مِئَتَيْ أَلْفٍ فِي مُؤْتَةَ، وَمَا الْقَادِسِيَّةُ عَنَّا بِبَعِيدٍ؛ إلاَّ أَنَّ أَشَدَّ الْمَلاَحِمِ سَوَادًا هِيَ عِنْدَمَا يَتَعَرَّضُ الْفَجَرَةُ الْكَفَرَةُ لِمُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُثِيرُوا مَشَاعِرَ عَوَّامِهَا فَضْلًا عَنْ أَبْطَالِهَا وَعُلَمَائِهَا وَأُولِي الْفَضْلِ فِيهَا؛ لَكِنَّهُمْ دَائِمًا مَا يَرْجِعُونَ بِالْخُسْرَانِ وَالْخَيْبَةِ، وَلَنَا فِي التَّارِيخِ عِبْرَةٌ.

فَفِي عَهْدِ الْعَبَّاسِيِّينَ اجْتَمَعَتْ أُورُوبَّا والرُّوسُ وَجُمُوعُ الْكُفْرِ بِجَيْشٍ عَرَمْرَمٍ بَلَغَ حَجْمُهُ مِئَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَمَعَهُمْ ألْفًا مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، وَمَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنَ الْجُنُودِ وَالسِّلاَحِ، وَأعْلنُوا الْحَرْبَ الْمُقَدَّسَةَ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَجَّهُوا لِدِيَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ إِفْنَائِهِمْ وَإِبَادَتِهِمْ -زَعَمُواْ- وَلاجْتِثَاثِ الْإِسْلامِ وَأَهْلِهُ، وَهَدْمِ مُقَدَّسَاتِهِمْ، وَكَانَتِ الْخِلاَفَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ فِي أَسْوَأِ أَيَّامِهَا مِنْ فَقْرٍ وَضَعْفٍ وَمَهَانَةٍ، وَتَحَكُّمِ الرَّوَافِضِ بِدِيَارِ الْإِسْلامِ تَحْتَ دُوَيْلَاتٍ شَتَّى، وَكَانَتِ الْخِلاَفَةُ لَا تَضُمُّ سِوَى أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ يَخْرُجُونَ فِي مَوْكِبِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنَ الْخِلاَفَةِ سِوَى الدُّعَاءِ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ.

وَفِي ظِلِّ هَذَا الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْخَوَرِ كَانَتْ هُنَاكَ إِمَارَةٌ صَغِيرَةٌ اسْمُهَا دَوْلَةُ السَّلاَجِقَةِ -وَكَانَتْ تَابِعَةً لِلدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ- وَكَانُوا عَجَمًا، وَيَقِفُونَ كَحَرَسِ حُدُودٍ عَلَى مَشَارِفِ أَرْضِ الْخِلاَفَةِ، يَصُدُّونَ غَارَاتِ الرُّومِ تَارَةً وَيَنْهَزِمُونَ أُخْرَى، وَكَانَ قَائِدُ تِلْكَ الْإِمَارَةِ شَابًّا صَغِيرًا، اسْمُهُ (أَلْبُ أَرْسَلاَنَ) وَهِيَ تَعْنِي: الْأَسَدَ الشُّجَاعَ.

كَانَ هَذَا الْبَطَلُ عَائِدًا لِتَوِّهِ مِنْ إحْدَى حُرُوبِهِ بِجَيْشٍ يُقَارِبُ عَدَدُهُ الْعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ فَقَطْ مَا بَيْنَ مُصَابٍ وَفَاقِدٍ لِسِلاَحِهِ، وَسَمِعَ بِمَجِيءِ الْجَيْشِ الصَّلِيبِيِّ فَأَسْرَعَ بِالْعَوْدَةِ، وَحَاوَلَ أَنْ يُقْنِعَ قَائِدَ الصَّلِيبِيِّينَ بِأَنْ يَرْجِعَ مُقَابِلَ بَعْضِ الْأَرْضِ وَالْمَالِ، وَلَكِنَّهُ رَفَضَ، مُعَلِّلاً بِأَنَّ إِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ وَهَدْمَ وَحَرْقَ مُقَدَّسَاتِهِمْ هِي الثَّمَنُ الْوَحِيدُ.

وَخَافَ (أَرْسَلاَنُ) مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ الْبُخَارِيُّ: “إِنَّكَ تُقَاتِلُ عَنْ دِينٍ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ بِاسْمِكَ هَذَا الْفَتْحَ، فَلاَقِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ بِالنَّصْرِ، وَالدُّعَاءُ مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ”، ثُمَّ قَامَ الْأَسَدُ الشُّجَاعُ خَطِيبًا فِي جَيْشِهِ وَقَدْ لَبِسَ الْبَيَاضَ قَائِلاً: “إِنَّنِي أُقَاتِلُ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، فَإِنْ سَلِمْتُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فَهَذَا كَفَنَي، وَأَكْمِلُوا مَعْرَكَتَكُمْ تَحْتَ قِيَادَةِ ابْنِي”، ثَمَّ قَالَ لِجُنُودِهِ: “مَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ، فَمَا هَاهُنَا سُلْطَانٌ يَأْمُرُ وَيَنْهَى”.

فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ نَزَلَ السُّلْطَانُ عَنْ فَرَسِهِ، وَسَجَدَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَرَّغَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ وَبَكَى، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ…

فَأَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْحَهُمْ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُحْصَوْنَ، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ (أَرْمَانُوسُ)، فَطَلَبَ مِنْ (أَرْسَلاَنَ) أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِالْمَالِ فَفَدَاهَا بِألْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ مُسْلِمٍ فِي بِلاَدِ الرُّومِ.

كُنَّا جِبَالاً فِي الْجِبَالِ وَرُبَّمَا .. سِرْنَا عَلَى مَوْجِ الْبِحَارِ بِحَارا
بِمَعَابِدِ الْإِفْرِنْجِ كَانَ أَذَانُنَا .. قَبْلَ الْكَتَائِبِ يَفْتَحُ الأَمْصَارَا
نَدْعُوَ جِهَارًا لاَ إلَهَ سِوَى الَّذِي .. صَنَعَ الْوُجُودَ وَقَدَّرَ الأَقْدَارَا
نَحْنُ الَّذِينَ إِذَا دُعُوا لِصَلاَتِهِمْ .. وَالْحَرْبُ تَسْقِي الْأَرْضَ جَامًا أحْمَرَا
جَعَلُوا الْوُجُوهَ إِلَى الْحِجَازِ وَكَبَّرُوا .. فِي مَسْمَعِ الرُّوْحِ الْأَمِينِ فَكَبَّرَا

إِخْوَةَ الْإِسْلامِ، هَلْ يَتَصَوَّرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْمُدَ عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، أَمَامَ مِئَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ قَدْ تَشَبَّعَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِالْحِقْدِ عَلَى الْإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ، إِنَّ نَصْرَ اللهِ لَا يَأْتِي بِالْعَدَدِ وَالْكَمِّ بِقَدْرِ مَا يَأْتِي بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلاَصِ.

هَؤُلَاءِ النَّصَارَى هُمْ أَحْفَادُ أَبْرَهَةَ الْحَبَشِيِّ –فَالتَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ- فَقَبْلَهُمْ كَانَ أَبْرَهَةُ، وَالْيَوْمَ صَارَ أَتْبَاعُ الْفُرْسِ وَأَذْنَابُ الرَّوَافِضِ، وَفِي جَمِيعِهِمْ صَدَقَ رَبُّنَا إِذْ يَقُولُ ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32] أَرَادَ أَبْرَهَةُ الأَشْرَمُ أَنْ يَهْدِمَ الْكَعْبَةَ لِيَحُجَّ النَّاسُ إِلَى كَنِيسَةٍ لَهُ بَنَاهَا، وَلَمَّا وَصَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ بِجَيْشِهِ وفِيلِهِ، وَمَعَهُمْ أَبِي رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى إِبِلِ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَصَابُوا إِبِلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبْرَهَةَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ عَظَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَنَزَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ مَعَهُ.

فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: “أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ لِي إِبِلاً فَارْدُدْهَا عَلَيَّ”، فَقَالَ لَهُ أَبْرَهَةُ: “لَقَدْ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ وَلَقَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ تَكَلَّمْتَ” قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: “أَتُكَلِّمُنِي فِي إِبِلٍ لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِيِنُ آبَائِكَ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟” فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: “أَنَا رَبُّ هَذِهِ الْإِبِلِ، وَلِلْبَيْتِ رَبٌّ سَيَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ” فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبِلَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قَوْمِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَأَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَرُؤُوسِ الْجِبَالِ، وَتَوَجَّهَ أَبْرَهَةُ وَجَيْشُهُ وَفِيلُهُ نَحْوَ مَكَّةَ وَتَهَيَّئُوا لِلدُّخُولِ، وَقَرَّبَ فِيْلَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا حرَّكُوهُ وَقَفَ ثُمَّ بَرَكَ إِلَى الْأَرْضِ، فَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ فَأَبَى، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْيَمَنِ هَرْوَلَ، حَتَّى لَحِقَ الْفِيلُ بِجَبَلٍ! ثُمَّ كَانَتْ آيَاتُ اللهِ وَقُدْرَتُهُ، ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 3 – 5] حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ وَجَعَلَهُمُ اللهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ.

اللهُ أكْبَرُ… جَاءَ أَبْرَهَةُ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ فَهَدَمَ اللهُ كَيَانَهُ، وَزَلْزَلَ أَرْكَانَهُ وَأَعْوَانَهُ، فَأَمْطَرَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَصَبَّ عَلَيْهِمُ الْوَيْلَ وَالْخَسَارَةَ، فَسُبْحَانَ مَنْ نَقْضَ مَا أَبْرَمُوهُ، وَأَبْطَلَ مَا دَبَّرُوهُ، جَاءَتْهُمْ حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ، تَسْحَقُ الطَّاغِينَ، وَتُمَزِّقُ الْمَارِقِينَ، وَمَا رَمَتِ الطُّيُورُ يَوْمَ رَمَتْ، وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وَلِبَيْتِهِ حَمَى، وَلِلْمُعْتَدِينَ الْمَوْتُ وَالْعَمَى ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكُفُورَ ﴾ [سبأ: 17].

أَلاَ فَلْيَعْتَبِرْ ذَيْلُ الرَّوَافِضِ فِي الْيَمَنِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ حَافِظٌ بَيْتَهُ وَحَامِيهِ بِالْعَرَبِ أَوْ بِالْعَجَمِ، بَالطَّيْرِ أَوْ بِالرِّيحِ، فَقَدْ جَعَلَهُ أَمْنًا وَأَمَانًا، لَقَدْ كَانَ لِهَؤُلاَءِ الضُلَّالِ فِي أَسْلاَفِهِمْ عَبْرَةٌ وآيَةٌ، لِكِنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ لاَ يَتَّعِظُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ… فأَيْنَ الْمَفَرُّ؟ وَالْإلَهُ الطَّالِبْ *** والْفَاجِرُ الْمَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ..

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67] أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ…

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَخَافُوهُ وَعَظِّمُوهُ، فَهُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالُ. الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ.

فَتَبَارَكَ اللَّهُ… مَنِ الَّذِي يُعَادِيهِ فَلَمْ يُذَلْ؟ وَمَنِ الَّذِي يُحَارِبُهُ فَلَمْ يُهْزَمْ؟ وَمَنِ الَّذِي نَازَعَهُ كِبْرِيَائَهُ فَلَمْ يُقْصَمْ؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ قِصَّةَ غَزْوِ الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ وَمُقَدَّسَاتِهِمْ دَرْسٌ عَقَدِيٌّ، وَسُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَقُدْرَةٌ إلَهِيَّةٌ، تَأَمَّلُوا عَظِيمَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَشَدِيدَ بَأْسِهِ وَأَخْذِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَقُومَ فِي قُلُوبِنَا، فَنَعْلَمَ أَنَّ رَبَّنَا سُبْحَانَه يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، وَأَنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ وَالطُّغَاةَ مَهْمَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ أَنْ لَوْ شَاءَ اللهُ لأَفْنَاهُمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَعَلِيمٌ حَكِيمٌ.

عِبَادَ اللَّهِ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْقَصَصُ شَرَفَ مُقَدَّسَاتِ الإِسْلاَمِ، وَبَيَّنَتْ كَذَلِكَ حِمَايَةَ اللهِ لِدِينِهِ وَعِبَادِهِ، وَكَشَفَتْ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ حَسَدَ النَّصَارَى وَحِقْدَهُمْ عَلَى مَكَّةَ خُصُوصًا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَرْضِهِمْ عُمُومًا! فَحَسَدُهُمْ مَبْدَأُهُ دِينِيُّ عَقَدِيٌّ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ، وَمَا يُمَارِسُهُ نَصَارَى الْيَوْمِ بِالتَّعَاوُنِ مَعَ الرَّافِضَةِ امْتِدَادٌ لِذَلِكَ الْعِدَاءِ السَّافِرِ.

وَمِنَ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ أَنَّ خَوَنَةَ الْأُمَّةِ مَخْذُولُونَ، فَالَّذِينَ تَعَاوَنُوا مَعَ أَبْرَهَةَ وَصَارُوا عُيُونًا لَهُ وَجَوَاسِيسَ لُعِنُوْا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، حَتَّى أَصْبَحَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ رَمْزًا لِلْخِيَانَةِ وَالْعَمَالَةِ.

كَمَا كَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ إِرْهَاصًا بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِعْثَتِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ بَابِ الصُّدْفَةِ، بَلْ كَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى أَرَادَ أَنْ يُهَيِّأَ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ بِشَارَةٌ أَنَّ النَّصْرَ لِلْإِسْلامِ وَأَنَّ اللهَ يَحْمِي بِلاَدَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: “وَكَانَ أَمْرُ الْفِيلِ تَقْدِمَةً قَدَّمَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَبَيْتِهِ، وَإِلَّا فَأَصْحَابُ الْفِيلِ كَانُوا نَصَارَى أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانَ دِينُهُمْ خَيْرًا مِنْ دِينِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُبَّادَ أَوْثَانٍ فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ نَصْرًا لَا صُنْعَ لِلْبَشَرِ فِيهِ، إِرْهَاصًا وَتَقْدِمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَتَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ” انْتَهَى كَلاَمُهُ رَحِمَهُ اللهُ.

“فَنَصَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نَصْرًا لَا صُنْعَ لِلْبَشَرِ فِيهِ، وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: لَمْ نَنْصُرْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ عَلَى الْحَبَشَةِ لِخَيْرِيَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صِيَانَةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي نُشَرِّفُهُ وَنُعَظِّمُهُ وَنُوَقِّرُهُ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ “سُبُلِ الْهُدى وَالرّشادِ”.

فِيَا مُسْلِمُونَ، اتَّقُوا اللهَ، وانْصُرُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وافْعَلُوا مَا بِهِ أَمَرَكُمْ، وَمَا عَنْهُ نَهَى فَاجْتَنِبُوهُ، إِنْ فَعَلْتُمْ مَكَّنَ لَكُمْ وَنَصَرَكُمْ، وَعَلَى عَدُوِّكُمْ أَظْهَرَكُمْ؛ ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].

واتَّقُوا اللهَ فِي إِخْوَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِمِحَنٍ وَبَلاَيَا، وَفِتَنٍ وَرَزَايَا، وَضِيقٍ في الْعَيْشِ غَيْرِ مَسْبُوقٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ اللهِ إلَّا أَنْتُمْ، فَأَعِينُوهُمْ بِمَا اسْتَطَعْتُمْ؛ وإِلاَّ فَادْعُوْا اللَّهَ لَهُمْ سِرًّا وَجِهَارًا، لِيْلاً وَنَهَارًا؛ فَرَسُولُنَا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ”.

فَاللَّهُمَّ احْفَظِ الْحَرَمَيْنِ وَمَا حَوْلَهُمَا، وَأَمِّنْ بِلاَدَكَ وَعِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ الْإِسْلامَ وَأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكتَابَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ وَعِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ… اللَّهُمَّ انْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا فِي الْحَدِّ الْجَنُوبِيِ، اللَّهُمَّ اشْفِ جَرْحَاهُمْ وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ وَبَارِكْ فِي جُهُودِهِمْ. اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَتَنَا وَوَحِّدْ صَفَّنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيِّ أَمْرِنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُ فِي رِضَاكَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً؛ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّ اللَّهُمَّ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

رابط الموضوع

في روضة الأخلاق النبوية

في روضة الأخلاق النبوية

إسلام ويب

سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي الصفحة الجَلِيَّة والروضة الندِيَّة التي نتنسم فيها ونتعلم منها الأخلاق النبوية الكريمة، فقد نشأ نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أول أمره إلى آخر يوم في حياته متحلياً بكل خُلُقٍ كريم، مبتعداً عن كل وَصْفٍ ذميم، أدَّبه ربُه فأحسن تأديبه، فكان أحسن الناس عِشْرةً وأدباً، فهو أشد الناس حياءً من العذراء(البنت البكر) في خِدرها(بيتها وسترها)، ضُرِبَ به المثل في الأمانة والصدق، وقد أسموه الصادق الأمين، وكان أكرمَ الناس نَفساً، فما ردَّ سائلاً ولا فقيراً ..

خلق عظيم 2

ومع علو قدره ومنزلته كان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، قال له رجلٌ: يا خيرَ البريّة، فقالَ مُتواضعًا ( ذاك إبراهيم )، ولما جاءه رجل ترعد فرائصه قال له: ( هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ) رواه ابن ماجه .

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورحمة، يتَجوَّز في صلاتِه إذا سمِع بكاءَ الصَّبيّ كراهَةَ أن يشقَّ علَى أمّه، ورحمته شملت الإنسان والحيوان .. وكان خير الناس لأهله، لم يضرِب شيئًا قطّ بيدِه لا امرأةً ولا خادماً، ويقول: ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي .

ومن جميل صفاته وعظيم أخلاقه أنه أوفر الناس حِلماً، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، فقد آذاه قومُه فسَأله ملَك الجِبال أن يطبقَ عليهم جبلين فأبَىَ وقال: ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ) رواه الطبراني . وعندما دخل مكة المكرمة فاتحاً منتصراً كان قوله لمن حاربوه وعادوه: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .. ومع كثرة أعبائه ومسئولياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أطلق الناس وجهاً وتبسماً، فقد قال عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه: ” ما رأيتُ أحدًا أكثرَ تبسُّمًا من رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ “، وقال جرير ـ رضي الله عنه ـ: ” ما رآني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ تَبَسَّم ” .

وبالجملة فإن نبينا وحبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خُلقا، ويكفيه شهادة ربه ـ عز وجل ـ له بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم الآية: 4)، وقد سأل سعد بن هشام أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت له: ( ألست تقرأ القرآن؟، قال: بلى، قالت: فإن خلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان القرآن ) رواه مسلم .

قال القاضي عياض: ” وأما الأخلاق المكتسبة من الأخلاق الحميدة، والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها، وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها فضلا عما فوقه، وأثنى الشرع على جميعها، وأمر بها، ووعد السعادة الدائمة للمتخلق بها، ووصف بعضها بأنه جزء من أجزاء النبوة، وهي المسماة بحسن الخُلق، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” .

خلق عظيم 3

حسن خلقه من أسباب دخول الناس الإسلام :
السيرة النبوية مليئة بأمثلة كثيرة لصحابة دخلوا في الإسلام بسبب حسن خلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عفوه وصفحه، أو جوده وكرمه، أو حلمه ورفقه، أو تواضعه وعدله، أو رحمته وشفقته، فهذا ثُمامةُ بن أُثال يُسلِمُ بسبب عفو النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ويقول: ( واللهِ ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهِكَ، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوهِ كلِّها إليّ، واللهِ ما كان على وجه الأرض دينٌ أبغضَ إليّ من دينِك، وقد أصبحَ دينُك أحبّ الأديانِ كلِّها إليّ، والله ما كان على وجه الأرض بلادٌ أبغض إليَّ من بلادك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد كلِّها إليّ ) رواه البخاري، وآخر يتأثر بكرمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوده فيقول: ( يا قومي أسلموا، فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة ) رواه مسلم، وزيد بن سعنة الحبر اليهودي يقول: ” ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتُها في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين نظرتُ إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمُهُ جهلَه، ولا تزيده شدَّةُ الجهلِ إلا حلمًا، وقد اختبرتُهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً “.

قال ابن حجر في كتابه (الإصابة) حين عرَّف بالصحابي الجلندى ملك عمان أنه قال: ” لقد دَلَّنِي على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر ( لا يتلفظ بقبيح )، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي ” .

قطوف من أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حُسْنِ الخُلُق ومنزلته :

ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم ) رواه الترمذي .

ـ وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إنَّ من أحبِّكم إليّ، وأقربِكم مني مجلساً يومَ القيامةِ أحاسِنُكم أخلاقا ) رواه الترمذي .

ـ وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لم يكنِ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاحشًا ولا مُتَفَحِّشاً، وكان يقول: إن مِن خِيارِكم أحسنَكم أخلاقاً ) رواه البخاري

ـ وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ما شيءٌ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامةِ مِن خُلُقٍ حسَنٍ ) رواه الطبراني، وعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنه ـ قالت: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنَّ المؤمنَ ليُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصَّائمِ القائم ) رواه أبو داود .

ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سُئِلَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أَكْثرِ ما يُدخلُ النَّاسَ الجنَّة؟، فقال: ( تَقوى اللَّه وحُسنُ الخلُق ) رواه الترمذي .

ولأهمية الخلق الحسن ـ للفرد والمجتمع والأمة ـ أوصى به خلق عظيم 4النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين عامة، وأهل القدوة من الدعاة والمربين والولاة والقضاة ـ خاصة ـ، ولذلك لما بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن قاضياً ومعلماً وأميراً، أوصاه بوصايا كثيرة، منها: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) رواه أحمد، بل جعله النبي – صلى الله عليه وسلم ـ حسن الخلق سبباً من أسباب بعثته، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) رواه أحمد .

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإنْ هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وكثيراً ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، قائلا: ( واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ) رواه مسلم، ويقول: ( اللَّهمَّ كما حَسَّنتَ خَلقي، فحسِّن خُلُقي ) رواه ابن حبان .

لقد أصبحت الأخلاق الطيبة مطلبا أساسياً لنا ـ أفراداً ومجتمعات ـ، ندعو بها إلى الله، ونسترجع بها سالف عِزِّ ومَجْدِ أمتنا الإسلامية، فقد كان الناس يدخلون في دين الله لِمَا يروا من عظيم أخلاق نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن حسن معاملة الصحابة وجميل أخلاقهم مع بعضهم البعض ومع أعدائهم، ومن أجل ذلك جعل الله تعالى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب الخلق العظيم قدوة ونموذجاً، يطبق ويُجَّسِّد الإسلام الذي أُرْسِل به واقعًا عملياً، بكلِّ ما يحمله من مبادئ تدعو إلى الأخلاق، وقِيَم تحث على الفضيلة، قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(الأحزاب من الآية: 21) .

قال ابن كثير : ” هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه ـ عز وجل – ” .

المصدر

المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم

المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم


2CAMELS

لما ترك المسلمون بمكة ديارَهم وأموالهم وعشيرتهم، وجدوا لهم إخوانًا بالمدينة، احتفلوا بهم وواسوهم، وكانوا لهم أهلًا بدل أهلهم، وعشيرة خيرًا من عشيرتهم، وفي هذا يقول الله عز وجل:

﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8، 9]، وكان من أهم الأمور التي بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم لإرساء أسس الدولة الناشئة بالمدينة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

ولقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع المهاجرين والأنصار في بوتقة واحدة حتى يصيروا نسيجًا واحدًا، متآلفًا مترابطًا برباط واحد هو رباط العقيدة لا العصبية ولا القومية، ولا غير ذلك مما كانوا يجتمعون عليه قبل الإسلام، وهذا هو أسمى وأقوى رباط، رباط المؤاخاة في الله والحب في الله والموالاة في الله عز وجل، كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن يزيل عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والديار، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، وقويت أواصر العقيدة، صار التوارث بالقرابة والرحم في نطاق الإسلام، وظلت بين المسلمين المودة والموالاة، وبقيت قوية راسخة برغم تلك المحاولات اليائسة التي قام بها اليهود وإخوانهم من المنافقين لزعزعة الاستقرار وإفساد ذات بَيْنِ المسلمين مهاجرين وأنصارًا، على أن هذه الرابطة هي التي جمعت بين المهاجرين وبعضهم وبين المهاجرين والأنصار.


قال ابن حجر في الفتح: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا مائة، فلما نزل (وأولو الأرحام) بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة)[1].


جاء وصف الصنف الأول (وهم المهاجرون) بثلاثة أوصاف: “آمنوا وهاجروا وجاهدوا، وهؤلاء هم الذين أسلموا بمكة وتحملوا الأذى من قومهم، حتى اضطروهم إلى الخروج منها، ولما هاجروا إلى المدينة أمروا بالقتال فقاتلوا وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله عز وجل؛ لذ أثبت فضلهم وسبقهم، فأثنى الله تعالى عليهم، وشهد لهم بشهادتين: الأولى: في سورة الأنفال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]، والثانية في سورة الحشر: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]؛ ليعلم أن الإيمان لا بدَّ له من دليل وبرهان، وكان دليلُ الإيمانِ الحقِّ وبرهان صدقِ الصحابة الأول رضي الله عنهم، هو الهجرة والجهاد، وقد سبق الحديث عن أنواع الهجرة، أما الجهاد، فهو باقٍ ماضٍ إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري باب: الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم))[2].


يقول ابن حجر: “ذكر صلى الله عليه وسلم بقاءَ الخير في نواصي الخَيل إلى يوم القيامة، وفسَّره بالأجر، والمَغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يُقيِّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا، فدلَّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزوُ مع الإمام العادل أو الجائر، وفي الحديثِ الترغيبُ في الغزو على الخيل، وفيه أيضًا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِن لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر: ((لا تزال طائفة مِن أمتي يقاتلون على الحق))”[3].


وهناك بشارة بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته، وهي أن الإسلام سيعود قويًّا، وسترتفع راية التوحيد خفَّاقة عالية – بعد قرون من المذلة والضعف والانكسار – وستنهزم قوى الشرك وجحافل الباطل، وفي مقدمتهم اليهود، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر – وراءه اليهودي -: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله))[4].


يقول ابن حجر: “وهو إخبارٌ بما يقع في مستقبل الزمان؛ لأنه من المعلوم أن الوقت الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بعدُ، وفيه إشارة إلى بقاء دين الإسلام إلى أن ينزل عيسى عليه السلام، فإنه الذي يُقاتل الدجال، ويستأصل اليهود الذين هم تبع الدجال[5]، ثم يذكر في شرح الحديث في باب علامات النبوة: (أن الشجر والحجر ينطق، فيقول: يا عبدالله “للمسلم”، هذا يهودي فتعالَ فاقتُلْه، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجرِهم، وفيه أن الإسلام يبقي إلى يوم القيامة)[6].


ومِن هنا يتبين أن الجهاد في الإسلام لمقاومة الكفر، ولإحقاق الحق وإبطال الباطل، وللدفاع عن الدعوة – مستمرٌّ باقٍ مهما بُذلت المحاولات، ودُبِّرت المؤامرات للقضاء على الإسلام وإسكات صوت الجهاد، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].

أما الأنصار[7]، فهم كالمهاجرين في الدرجة والأجر؛ لأنهم آمَنُوا وآوَوا ونصَرُوا إخوانهم المهاجرين الذين جاؤوهم فقراء لا شيء معهم إلا إيمانهم الراسخ وعقيدتهم القوية النقية.


وقد أثنى الله تعالى على الأنصار في مواضع كثيرة في كتابه، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فعَن مناقب الأنصار وفي باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا الهجرة لكنت امرًا مِن الأنصار)).

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الأنصار سلَكوا واديًا أو شِعبًا، لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمرًا من الأنصار))، فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي، آوَوْه ونَصَرُوه[8].

يقول ابن حجر: (أراد بذلك حسن مواقفهم له؛ لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد)[9].

الولاء، وهو قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72].

الولاء: لغةً: ولي، الوَلْي بسكون اللام: القرب والدُّنُو، يقال: تباعد بعد وَلْي، وكل مما يليك؛ أي: مما يقاربك، ووَلِي الوالي البلدَ، وولي الرجل البَيْع وِلايةً (بكسر الواو)، والوَلِيُّ ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، ويقال: والى بينهما وِلاءً (بالكسر)؛ أي: تابع، وتوالى: تتابع، والوِلاية بالكسر: السلطان، والوَلاية بالفتح والكسر: النُّصرة[10].

ويقول الألوسي: “الولاية: مصدر بالفتح والكسر، وهما لغتان بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه، والكسر ولاية السلطان، وقيل: بالفتح: النصرة والنسب، وبالكسر للإمارة[11].

وعلى هذا يمكن القول بأن الولاء بين المهاجرين والأنصار – المذكور في الآية الكريمة – هو الوراثة والنصرة، وهو يمثل حكمًا مرحليًّا منذ بداية الهجرة إلى نزول سورة الأنفال، وفيها قوله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، فنسخ حكم الوراثة، وبقيت ولاية النصرة.


يقول الألوسي: (أي بعضهم أولياء بعض في الميراث؛ على ما هو مروي عن ابن عباس وغيره: آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان المهاجري يرِثُه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة[12]، ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة)[13].



[1] فتح الباري جزء 7 ص 216 باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وذكر ابن حجر أن المؤاخاة بين المهاجرين كانت بمكة (وهو قول لابن عبدالبر)، ثم ذكر أنها كانت بالمدينة (وهو قول ابن سعد).

[2] يقول ابن حجر: روي حديث الخيل معقود في نواصيها الخير جمع من الصحابة؛ وهم: ابن عمر، وأنس، وأبو هريرة، وابن مسعود، وغيرهم – فتح الباري ج6، ص43.

[3] المرجع السابق.

[4] فتح الباري ج6، ص 87، باب قتال اليهود.

[5] المرجع السابق.

[6] المرجع السابق ص 478 باب علاقات النبوة في الإسلام.

[7] الأنصار: اسم إسلامي سمَّى به النبي صلى الله عليه وسلم الأَوْس والخَزْرج وحلفاءهم؛ والأَوْس يُنسَبون إلى أَوْس بن حارثة، والخَزْرج يُنسَبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قيلة، وهو اسم أمهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر، الذي يجتمع عليه أنساب الأزد – انظر فتح الباري ج7، ص87.

[8] المرجع السابق ص 88.

[9] المرجع السابق.

[10] مختار الصحاح.

[11] روح المعاني، ج6 ص52.

[12] وقيل: حتى أنزل الله آية المواريث، وقيل: الناسخ ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 75]، ذكر ذلك الإمام الجصاص في أحكام القرآن جزء 3 ص 97، وحيث إن السورة بأكملها نزلت في أعقاب بدر، فإن حكم التوارث كان حكمًا مرحليًّا – كما سبق بيانه – إلى أن نزلت السورة الكريمة، فصار التوارث بالقرابة بشرط الإسلام خصوصًا بعد انتصار بدر.

[13] روح المعاني، ج6، ص52.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/121078/#ixzz5HYt8Cyfl

اليتم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

اليتم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

اليتم في حياة البشر بلاءٌ وعناءٌ، لا تختصره العبارة ولا تحدوه الإشارة، وفي معرض التفصيل يفصح الواضح عن نفوسٍ يضنيها الحرمان ويقلقها قلة الناصر وندرة الأعوان.

ولله في خلقه شؤون من الحكم المبهرة والإرادة المفضية إلى تبوأ منازل الفضل بعد الصبر، حيث إن البيئات الخشنة تعرك النفس وتربيها وترقيها وتدفعها إلى التقوى والهداية والصلاح.

وهكذا كان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، نشأ بين مدارج اليتم فاقداً والده قبل مولده، وقد آلمه بعد سنوات من عمره المبارك أن تفارقه والدته وتسبقه إلى آخرتها ليتجرع أضعافاً من مرارات الحزن النبيل، وهكذا حاله؛ لم ير أباه ولا دام له حنان الأمهات.

أما بعد:
فاليتم في حياة الناس نقصٌ ومزيد أوجاعٍ يقصم الفواقر، وينقض الظهور القوية ويربك المشاعر ويمعن في تذكير النفس بالاحتياج والضجر، وذلك بعد رحيل الوالد في بني البشر، حيث يفقد اليتيم بعده مصدر الحنان الفطري الدائم والذي يمثل قمة العطاء بلا حدود، فالوالد بفطرته لا يهنأ ولا يستريح إلا مع أولاده – غالباً – ولا يفرح إلا لهم وبهم، بل ويقدم إرضاءهم – في كثير من الأحيان – على رضا نفسه، حتى أننا نجد من موروثنا الثقافي من كان يقول لولده:

إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت … لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي … طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها … لتعلم أن العمر وقت مؤجل

ومن ذلك أيضاً قول حطان بن المعلى:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا… تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم … لامتنعت عيني عن الغمض

نعم، هذه بعض مشاعر حيّة تعتمل دائماً في نفوس الآباء نحو أولادهم تدفعهم إلى الاهتمام الدؤوب بهم، حتى إذا فاجأ القدر الوالد والولد بمرارة الفراق واليتم تغيرت الأحوال ورسمت الأحزان آثارها المضنية على النفوس التي تجرعت كؤوس الحرمان من طعمةٍ أو كسوةٍ أو رعايةٍ ماديةٍ أو نفسيةٍ قد ضرب عليها الدهر صروف النسيان بعد انتقال الآباء إلى الرفيق الأعلى، وقد يجد الأيتام بعض العِوَضِ من القلوبِ الرحيمةِ التي يحركها رب البرايا بأسمائه الحسنى وكرمه الأسنى.

أما في حياة الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد تشرف اليتم ذاته لما نسب إليه لأنه محض تكريم ومزيد عنايةٍ إلهيةٍ فقد تميز صلى الله عليه وسلم بحيازة الكمال في التربية برعاية ربه له والذي خاطبه سبحانه في معرض المنِّ والتذكير بالنعمة في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ (الضحى:6)، رغم أنه انتقل صلى الله عليه وسلم في أطوار الرعاية الأولى بين حنان الأم الذي لم يدم سوى ست سنوات من عمره المبارك، وبين رعاية الجد عبد المطلب والتي لم تدم بعد فقد الوالدة سوى عامين، ثم كانت الكفالة من عمه أبي طالب حتى شب عن الطوق ودخل في سن الشباب صلى الله عليه وسلم، وليست هذه مصادفة وقعت في قلب الأحداث بل إنها من القدر السعيد المُعَدِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ (القمر:49)، فلا يحدث في ملك الله إلا ما أراد، وشاءت إرادة العلي القدير أن ينشأ سيد الناس يتيماً ليجيره رب الناس من شدة اليتم وزيغ الأراء طلبا للهداية إلى طريقةٍ لإصلاحِ الذين يرتعون في عمايات الجاهلية، ثم أغناه الله تعالى به عن كل معين ونصير، قال تعالى ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ (الضحى 6-8)، فهذا من صور الإعداد الخاص والعناية العظمى بسيد البشر صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ ربه ومولاه، لذا؛ كان أدبه هو الكاملُ الجمُّ الذي وَسِعَ كلِّ مؤالفٍ ومجانفٍ ومخالفٍ، لأنه حاز أقصى مراقي العلا في تربيته لأن ربه سبحانه هو الذي تولاه.

ملمحٌ هامٌّ من العبرةِ في كونه يتيماً:
نقلتْ أم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم السيدة آمنة بنت وهبٍ صورةَ زوجها عبد الله بن عبد المطلب لمخيلة ابنها طيبةً كما عاينتها، وفصَّلتْ له القول فيما كان عليه من شمائل طيبة وأخلاق فاضلة.. وهل كان عبد الله إلا ذلك الشخص كريم الخلق رائع السجايا طاهر المحتد؟ كما قال النبي الكريم ذاته عن هذا الأصل حين الحديث عنه: (إنَّ اللَّهَ خلقَ السَّماواتِ سبعًا ثمَّ خلقَ الخلقَ فاختارَ منَ الخلقِ بَنيِ آدمَ ثمَّ اختارَ من بَنيِ آدمَ العَربَ ثمَّ اختارَ منَ العَربِ مُضرَ ثمَّ اختارَ مِن مضرَ قُرَيْشًا ثمَّ اختارَ من قُرَيْشٍ بَنيِ هاشمٍ ثمَّ اختارَني من بَني هاشمٍ فأَنا خيارٌ مِن خيارٍ) (ابن حجر العسقلاني / الأمالي المطلقة 68 بسندٍ حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما).

وبمقدار ما كان لهذه السلسلة الطاهرة من الخير الفطري كان والد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا السمو والخلق الرفيع والأصل الكريم فقد أراد الله تعالى أن لا يتولى عبد الله بن عبد المطلب تربية النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أراد لأبقاه.

وتُنقل أمانة التربية كلها في يد آمنة بنت وهب سيدة بني زهرة وأوفاها أدباً وحسباً، وكما نعلم أنها لم تدم لولدها، وكفله على تمام المعنى جده عبد المطلب بن هاشم ذلك الشيخ المتوج بالوقار وله في الآفاق سيرة مرضية ترفع الهام وتسر الوجدان، لكنه كذلك لم يكن هو المعنيُّ بتربية النبي صلى الله عليه وسلم وإلا؛ لو أراد الله تعالى ذلك الدور لعبد المطلب لأبقاه.

ومات عبد المطلب بن هاشم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يناهز الثامنة من عمره المبارك، وتغيرت عليه معالم التربية وخططها بين والدته وجده، بيد أن اليتم قد بلغ مداه في قلبه ليبدأ بنفسه رحلة التربية الذاتية على مراد ربه.

وعن تجرع آلام اليتم في قلب النبي صلى الله عليه وسلم حدث ولا حرج عن هذين المحنتين اللتين ألمَّتا به وهو في معرض الصبا الباكر، فقد ودع والدته وجده بدموع سخيَّة بعدما تضافرت عليه أحزان الفقد لوالده من قبل لتصطدم مشاعره مباشرةً بما لا طاقة لصبيٍّ به.. كأنَّ الله تعالى أرادَ أن يذيقه من هذا الكأس في سِنِيِّ إعداده الأُوَلِ ليكون ذلك له إشعاراً بحال من مسَّهمُ الحزن بجراحه وآلمتهم المحن وأناخت عليهم ليداويَ الجراحَ ويخفِّفَ الأثْقالَ عن الكواهِلِ والظهور صلى الله عليه وسلم وليكون رحمة لعموم المؤمنين كما قال الله تعالى:﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة:128)، بل ليكون رحمة لكل بني البشر كما قال الله له ربه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنبياء:107).

فاليتم في حال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان عطاءً وفضلاً ويختلف عن سائر البشر في كونه تدريباً عملياً شاقاً على الشفقة البالغة التي لا حدود لمنتهاها عند الخلق، وهو كذلك كان ضرورةً لخلو الساحة في التربية من الأغيار ليتولى الله تعالى أمره، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ (الأحزاب: من الآية3).

لهذا؛ على كل عاقل أن يعلم بأن تربية الرجال ناقصة والكمال لله فلا تقل [رباني أبي]، ولكن قل: [رباني الإسلام] إن استطعت أن تكمل النواقص في تربية الآباء.. والله معين.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/126640/#ixzz5HYrjDQkE

نماذج في اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ

نماذج في اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ

ناصر بن سعيد السيف – @Nabukhallad

الصحابة 1

كل مسلم عاقل يعلم أن الصحابة الكرام-رضي الله عنهم أجمعين-هم أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-، وأن قلوبهم أنقى وأتقى قلوباً بعد قلب النبي ﷺ وقلوب الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام -، وهم أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، وأتقاهم لله -تعالى-، وأكثرهم خشية لله -تعالى-وأفضل منا عند الله -عز وجل-.

جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي بريدة عن أبيه –رضي الله عنه-قال: صلينا المغرب مع رسول الله ﷺ ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: (ما زلتم ههنا؟) قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلى معك العشاء قال: (أحسنتم أو أصبتم) قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). ([1])

قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: (معنى الحديث أن النجوم مادامت باقية فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت، وقول النبي ﷺ: (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) أي: من الفتن والحروب، وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقد وقع كل ذلك، وقول النبي ﷺ: (وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم عليهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك وهذه كلها من معجزاته ﷺ).([2])

واقتداء الصحابة الكرام بالنبي ﷺ سطرتها كتب علماء الإسلام بصحة الأسانيد والمتون وتناقلها الناس عبر القرون، ومن هذه النماذج الكريمة:

1. لما رأى الصحابة في يد رسول الله ﷺ خاتَمًا مِن ذهب، لبسوا خواتيم من ذهب، فلما خلَعه خلعوا خَواتيمَهم، فعن ابن عمر –رضي الله عنه-أن رسول الله ﷺ اصطَنع خاتَمًا مِن ذهب، وكان يَلبسه فيجعَل فصَّه في كفِّه، فصنَع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: (إني كنتُ ألبس هذا الخاتم وأجعل فصَّه من داخل) فرمى به ثم قال: (والله لا ألبسه أبدًا) فنبَذ الناس خواتيمهم. ([3])

2. حينما خلَع النبي ﷺ نعلَيه في الصلاة خلع الصحابة نِعالهم؛ تأسيًا ومُتابعة له، فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-قال: بينما رسول الله ﷺ يُصلِّي بأصحابه إذ خلَع نعليه فوضَعهما على يَساره، فلما رأى ذلك القوم ألقَوا نِعالهم، فلما قضَى النبي ﷺ صلاته، قال: (ما حملكم على إلقاء نِعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيتَ نعلَيك فألقَينا نِعالنا، فقال ﷺ: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها قذرًا)، أو قال: (أذى)، وقال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظرْ فإن رأى في نعلَيه قذرًا أو أذًى فليَمسحه وليُصلِّ فيهما).([4])

3. زجر الصحابة لمن لا يستجيب لقول الله ورسوله ﷺ، فعن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما-أن رسول الله ﷺ قال: (لا تَمنعوا إماء الله أن يُصلِّين في المسجد) فقال ابنٌ له: (إنا لنَمنعهن)، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: (أُحدِّثك عن رسول الله ﷺ وتقول: إنا لنَمنعهنَّ؟!(. ([5])

4. عن أبي مسعود البدري –رضي الله عنه-قال: (كنتُ أَضرِب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا مِن خلفي: (اعلم أبا مسعود)، فلم أفهم الصوت مِن الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ﷺ فإذا هو يقول: (اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود) قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقـال: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)، قال: فقلت: (لا أَضرِب مملوكًا بعده أبدًا). ([6])

5. عن أنس –رضي الله عنه-أن خياطًا دعا رسولَ الله ﷺ لطعام صنَعه، قال أنس: (فذهبتُ مع رسول الله ﷺ إلى ذلك الطعام، فقرَّب إلى رسول الله ﷺ خبزًا ومرقًا فيه دُبَّاء وقديد، فرأيت النبي ﷺ يتتبَّع الدباء مِن حوالي القَصعة، قال: (فلم أزل أُحبُّ الدبَّاء مِن يومئذ). ([7])

6. عن أنس –رضي الله عنه-أن رسول الله ﷺ أخذ سيفًا يوم أُحد فقال: (مَن يأخذ مني هذا؟) فبَسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: (فمَن يَأخُذه بحقِّه؟) فأحجَم القوم، فقال سِماك بن خرَشة أبو دُجانة: (أنا آخُذه بحقِّه)، قال: (فأخَذه ففلَق به هام المشركين). ([8])

7. عن أبي هريرة –رضي الله عنه-أن رجلاً أتى رسول الله ﷺ فبعَث إلى نسائه، فقُلنَ: ما معَنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ: (مَن يضمُّ أو يُضيف هذا؟)، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلَق به إلى امرأته فقال: أَكرِمي ضَيفَ رسول الله ﷺ فقالتْ: ما عِندنا إلا قوت صِبياني، فقال: هيِّئي طعامك، وأَصبِحي سِراجَك، ونوِّمي صِبيانَكِ إذا أَرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامَها، وأصبَحتْ سِراجها، ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنَّها تُصلِح سِراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويَين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ فقال: (ضَحِكَ الله أو عَجب مِن فعالكما)، فأنزل الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: ٩]. ([9])

8. عن أنس –رضي الله عنه-قال: (كنتُ أسقي أبا عُبيدة وأبا طَلحة وأُبيَّ بن كعب مِن فَضيخ زهر وتمْر، فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر قـد حُرِّمتْ)، فقال أبو طلحة: (قـم يا أنس فأَهرِقها، فأهرَقتُها). ([10])

9. عن رافع بن خَديج –رضي الله عنه-قال: (نهانا رسول الله ﷺ عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعيةُ الله ورسوله أنفعُ لنا، نهانا أن نُحَاقِلَ بالأرض فنُكريها على الثُّلُث والرُّبع والطَّعام المسمى». ([11])

10. عن أنس بن مالك –رضي الله عنه-قال: لما فتَح رسول الله ﷺ خيبر، أَصبْنا حُمُرًا خارجًا مِن القرية فطبَخْنا منها، فنادَى مُنادي رسول الله ﷺ: (ألا إن الله ورسوله يَنهيانِكم عنها؛ فإنها رجْس مِن عمل الشيطان)، فأُكفِئت القُدور بما فيها، وإنها لتَفور بما فيها. ([12])

11. عن أبي هريرة –رضي الله عنه-أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: (لأُعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يَفتح الله على يديه)، قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ)، قال: فتساوَرتُ لها؛ رجاء أن أُدعَى لها، قال: فدعا رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب، فأعطاه إياها وقال: (امشِ ولا تَلتفِت حتى يَفتح الله عليك)، فسار عليٌّ شيئًا ثم وقَف ولم يَلتفِت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: (قاتِلهم حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منَعوا منكَ دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحِسابُهم على الله). ([13])

12. عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنه-قال: لما استَوى رسول الله ﷺ يوم الجمعة، قال: (اجلِسوا)، فسَمِع ذلك ابن مسعود فجلَس على باب المسجد، فرآه رسول الله ﷺ فقال: (تعالَ يا عبدالله بن مسعود). ([14])

وفي الختام يأتي التأكيد على إن الصحابة –رضي الله تعالى عنهم أجمعين – نجوم وزينة سماء هذه الأمة، والشرف كل الشرف في إتباعهم، وبذل كل غالٍ من أجل الذب عنهم وحفظ مكانتهم ونشر محبتهم، وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي بلغت عنان السماء في فضلهم لأنهم في الحقيقة حلقة الوصل بين الأمة وبين نبيها – صلى الله عليه وسلم – فإذا قطعت هذه الحلقة بأي طريقة يعني قطع صلة الأمة بنبيها – صلى الله عليه وسلم – ، وبالتالي فلا يجوز أن يناقش في عدالة الصحابة بعد عدالة الله تعالى ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم – لهم، ومن فضله تعالى أن منَّ على الصحابة بالصحبة ، فلا يجوز لغيرهم أن يقيس نفسه بهم وأن يجعل من نفسه حكماً عليهم، نسأل الله العلي القدير أن يجمعنا برسولنا – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام ووالدينا ومن أحببناهم في الله وأحبونا فيه في الفردوس الأعلى.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا جميعاً من المقبولين،
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير – ناصر بن سعيد السيف – 27 صفر 1438 هـ


http://saaid.net/Doat/naseralsaif/66.htm