من أيام رمضان في الدولة الأموية بالأندلس
يمتلئ التاريخ الإسلامي على امتداد أيامه بكثير من الانتصارات والفتوحات والبطولات والأيام المشهودة، ويقع شهر رمضان في بؤرة تلك الأحداث والأيام التاريخية وعلى رأسها؛ حيث وقعت فيه العديد من تلك المشاهد.. وفي هذه الصفحات نواصل معكم مطالعة أحداث شهر رمضان على امتداد أيام ممالك ودول الخلافة الإسلامية الزاهرة.
في هذه الحلقة نطالع معكم أحداث شهر رمضان في أيام الدولة الأموية بالأندلس؛ والتي حكمت قرابة ثلاثة قرون ممتدة (138 – 422 هـ = 755 – 1031 م)؛ حيث مع سقوط دولة الخلافة الأموية وتسيد العباسيين عام 132 هجرية، بدأت مطاردة ما تبقى من نسل بني أمية وتعقبهم بالقتل والحبس، ففر الشاب عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك إلى غرب إفريقية، ثم عبر عبدالرحمن إلى الأندلس في ربيع سنة (137هـ = 754م)، ونزل بثغر “المنكبّ” لموقعه الممتاز، وقد التف الناس حوله بما في ذلك جماعات البربر، على أمل أن ينقذهم من الأوضاع المتردية؛ ليؤسس الدولة الأموية الجديدة بثغر الأندلس، ولقب عبدالرحمن بن معاوية بـ “عبدالرحمن الداخل“؛ لأنه أول من دخل الأندلس من بني أمية حاكمًا.
وكانت عاصمة الدولة الأموية بالأندلس مدينة قرطبة، وتحولت إلى خلافة بإعلان عبدالرحمن الناصر لدين الله نفسَه في ذي الحجة 316 هـ/يناير 929م خليفة قرطبة بدلاً من لقبه السابق أمير قرطبة، وهو اللقب الذي حمله الأمراء الأمويون منذ أن استقلّ “عبدالرحمن الداخل” بالأندلس.
وتميزت الدولة الأموية في الأندلس بنشاط تجاري وثقافي وعمراني ملحوظ، حتى أصبحت قرطبة أكثر مدن العالم اتساعًا بحلول عام 323 هـ/935م، كما شهدت تشييد الكثير من روائع العمارة الإسلامية في الأندلس، ومنها الجامع الكبير في قرطبة، كما شهدت فترة حكم الأمويين نهضة في التعليم العام، جعلت عامة الشعب يجيدون القراءة والكتابة، في الوقت الذي كان فيه علية القوم في أوروبا لا يستطيعون ذلك.
وقد استمرت الدولة الأموية في الأندلس رسميًّا حتى عام 422 هـ/1031م، حيث سقطت الخلافة وتفككت إلى عدد من الممالك بعد حرب أهلية بين الأمراء الأمويين الذين تنازعوا الخلافة فيما بينهم؛ مما أدى بعد سنوات من الاقتتال إلى تفكك الخلافة إلى عدد من الممالك المستقلة.
وكان عدد خلفائها تسعة عشر خليفة، على النحو التالي:
أمراء قرطبة
|
عبدالرحمن الداخل |
756 – 788
|
هشام بن عبدالرحمن الداخل |
788 – 796
|
الحكم بن هشام |
796 – 822
|
عبدالرحمن بن الحكم |
822 – 852
|
محمد بن عبدالرحمن الأوسط |
852 – 886
|
المنذر بن محمد |
886 – 888
|
عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن |
888 – 912
|
عبدالرحمن الناصر لدين الله |
912 – 929
|
الخلفاء في قرطبة
|
عبدالرحمن الناصر لدين الله، بصفته خليفة |
929 – 961
|
الحكم المستنصر بالله |
961 – 976
|
هشام المؤيد بالله |
976 – 1008
|
محمد المهدي بالله |
1008 – 1009
|
سليمان المستعين بالله |
1009 – 1010
|
هشام المؤيد بالله، أُعيد تنصيبه |
1010 – 1012
|
سليمان المستعين بالله، أُعيد تنصيبه |
1012 – 1017
|
عبدالرحمن المرتضى |
1021 – 1022
|
عبدالرحمن بن هشام المستظهر بالله |
1022 – 1023
|
محمد المستكفي |
1023 – 1024
|
هشام بن محمد المعتد بالله |
1027 – 1031
|
ومن جملة أحداثها الرمضانية:
وقعة الربض (رمضان 202 هـ):
كان الحكم بن هشام من الحكام الظلمة، ولما ضاق أهل العلم بقرطبة من طغيانه واعوجاجه، دبروا للثورة عليه، عام 198 هجرية، وفشلت ثورتهم، وأمر الحكم بصلب اثنين وسبعين رجلاً منهم؛ مما أدخل البغضاء والرهبة إلى قلوب العامة، ومع ازدياد ظلم الحكم وجنوده، قام العامة بثورة أخرى عليه في 13 رمضان 202 هـ، هذه الثورة حدثت من أهل قرطبة، خاصة سكان ربض شقندة؛ نتيجة لفرض الحكم ضرائب باهظة على التجار، فتعرض له العوام وهو يمر من سوق الربض، وهو ما جعل الحكم يأمر بالقبض على عشرة من زعمائهم وصلبهم.
ومع غليان الناس من هذه الإجراءات، قام الناس باستغلال مشادة حدثت بين أحد مماليك الحكم وبين حداد يصقل السيوف، قتل على أثرها المملوك الحداد، ليزحفوا على القصر، ويقاتلوا الحكم وحراسه، وقد بعث الحكم قائده وابن عمه عبيدالله البلنسي وحاجبه عبدالكريم بن عبدالواحد بن مغيث في قوة قاتلت الثائرين، وطردتهم من فناء القصر، ثم واصلت القتال حتى دخلت ربض شقندة وأشعلت فيه النار، فتفرق الثائرون ليدركوا بيوتهم المحترقة، عندئذٍ، أحاط الجنود بالثوار وقتّلوهم ونهبوا دورهم، ففر عدد كبير من أهل الربض.
وقد استمر القتل والنهب ثلاثة أيام، وأمر الحكم بصلب 300 ثائر على النهر، فَلَمَّا كَانَ في الْيَوْم الثَّانِي أَمر بهدم الربض القبلي للثوار حَتَّى صَار مزرعة، وَلم يعمر طول مُدَّة بني أُميَّة، وتتبع دور الثائرين ضده بالهدم والإحراق، وَبعد ثَلاثَة أَيَّام أَمر بِرَفْع القَتْل والأمان، على أَن يخرجُوا من قرطبة، فلحق جُمْهُور مِنْهُم بطليطلة، واتجه 15000 منهم إلى الإسكندرية، وَكَانَ مِمَّن هرب من أهل الربض إِلَى طليطلة الفَقِيه يحيى بن يحيى ثمَّ أَمنه الحكم وَكَانَ مِنْهُم طالوت بن عبدالجَبَّار المعافِرِي أحد من لقي مَالك بن أنس، استخفى عِنْد يَهُودِيّ أحسن خدمته ثمَّ انْتقل إِلَى الوَزير الإسكندراني واثقًا بِهِ، فسعى بِهِ إِلَى الحكم وَأمكنهُ مِنْهُ، ورق له الحكم وسامحه على جرأته عليه وإقراره بغضه إياه لظلمه، وَنقص الإسكندراني فِي عين الحكم.
ولقد ظل الحكم مكروهًا من أهل قرطبة طيلة مدة حكمه؛ من جراء هذه المذبحة، وَلَقَد بلغ من استخفاف أهل الربض بالحكم أَنهم كَانُوا يُنَادُونَهُ لَيْلاً من أَعلَى صوامعهم: الصَّلاة الصَّلاة، يَا مخمور، وَلم يتمل بالعيش بعد هَذِه الوَقْعَة من عِلّة أصابته أَرْبَعَة أَعْوَام فَمَاتَ نَادِمًا مُسْتَغْفِرًا.
هزيمة الإفرنج بالأندلس أمام عبدالرحمن بن الحكم (رمضان 210 هـ):
سير عبدالرحمن بن الحكم سرية كبيرة إلى ممالك الفرنج في سفح جبال البرنيه، في رمضان لعام 210 هـ/ 825م، واستعمل عليها عبيدالله المعروف بابن البلنسي، فسار ودخل بلاد العدو، وتردد فيها بالغارات، والسبي، والقتل، والأسر، ولقي الجيوش الأعداء في ربيع الأول، فاقتتلوا فانهزم المشركون، وكثر القتل فيهم، وكان فتحًا عظيمًا، وفيها افتتح عسكر سيَّره عبدالرحمن أيضًا، برئاسة فرج بن مسرة – عامل جيان – حصن القلعة من أرض العدو، واستمر فيها بالغارات منتصف شهر رمضان.
حدوث كسوف بالأندلس في عهد عبدالرحمن بن الحكم (رمضان 218 هـ):
في سنة ثمان عشرة ومائتين، حدث كسوف كبير للشمس، وبدا الظلام قبل زوال الشمس، في أواخر رمضان، وذلك في عهد عبدالرحمن بن الحكم (عبدالرحمن الأوسط).
حرب بين موسى بن موسى عامل تطيلة وبين عبدالرحمن بن الحكم (رمضان 228 هـ):
وكان ذلك في رمضان 228 هـ/842 م، وكان سبب ذلك أن موسى بن موسى كان من أعيان قواد الأمير عبدالرحمن، وهو العامل على مدينة تطيلة، فجرى بينه وبين بقية القواد تحاسد وبغض سنة سبع وعشرين ومائتين، فتمرد موسى بن موسى على عبدالرحمن؛ مما اضطر عبدالرحمن بن الحكم أن يسير إليه جيشًا بقيادة الحارث بن يزيغ لردعه، فاقتتلوا عند منطقة “برجة”، فقتل كثير من أصحاب موسى، وعاد الحارث إلى سرقسطة، فسير موسى ابنه “ألب بن موسى” إلى “برجة”، فعاد الحارث إليها وحصرها فملكها وقتل ابن موسى، وتقدم إلى أبيه فطلبه، فحضر، فصالحه موسى على أن يخرج عنها، فانتقل موسى إلى “أزبيط”، وبقي الحارث يتطلبه أيامًا ثم سار إلى “أزبيط”، فحصر موسى بها فأرسل موسى إلى “غرسية” وهو من ملوك النصارى ليستعين به على الحارث، فاجتمعا وجعلا له كمائن في طريقه، وعسكرا له بموضع يقال له: “بلمسة” على نهر هناك، فلما جاء الحارث النهر خرج الكمناء عليه، وأحدقوا به، وجرى معه قتال شديد، وكانت وقعة عظيمة، وأصابه ضربة في وجهه فلقت عينه، ثم أسر الحارث في هذه الوقعة، فلما سمع عبدالرحمن بن الحكم خبر هذه الوقعة عظم عليه، فجهز عسكرًا كبيرًا واستعمل عليه ابنه محمد، وسيره إلى موسى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائتين، وتقدم محمد إلى “بنبلونة”، فأوقع عندها بجمع كثير من المشركين، وقُتل فيها “غرسية” وكثير من المشركين، ثم عاد موسى إلى العصيان من جديد على عبدالرحمن، فجهز جيشًا كبيرًا وسيرهم إلى موسى، فلما رأى ذلك طلب المسالمة، فأجيب إليها وأعطى ابنه إسماعيل رهينة، وولاه عبدالرحمن مدينة تطيلة مرة أخرى مصالحةً، فسار موسى إليها فوصلها وأخرج كل من يخافه، واستقر فيها.
وفاة الفقيه عبدالملك بن حبيب (رمضان 238 هـ):
هو أبو مروان عبدالملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي، قال الذهبي في ترجمته:
“الإمام، العلامة، فقيه الأندلس، أبو مروان عبدالملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة ابن الصحابي عباس بن مرداس السلمي، العباسي، الأندلسي، القرطبي، المالكي، أحد الأعلام”.
أصله من قرية قورت، ولد بالبيرة سنة 174هـ، ونشأ بها، ثم تحول إلى قرطبة طلبًا للعلم، ومن أجله رحل إلى المشرق سنة 208هـ، ثم انصرف إلى الأندلس سنة 210هـ حاملاً معه علمًا كثيرًا، نشره في بلدته، وكان موصوفًا بالحذق في الفقه، كبير الشأن، بعيد الصيت، كثير التصانيف، إلا أنه في باب الرواية ليس بمتقن، بل يحمل الحديث كيف اتفق، وينقله وجادة وإجازة، ولا يرجع إلى تحرير أصحاب الحديث.
صنف: كتاب (الواضحة) في عدة مجلدات، وكتاب (الجامع)، وكتاب (فضائل الصحابة)، وكتاب (غريب الحديث)، وكتاب (تفسير الموطأ)، وكتابًا في (حروب الإسلام)، وكتاب (فضل المسجدين)، وكتاب (سيرة الإمام فيمن ألحد)، وكتاب (طبقات الفقهاء)، وكتاب (مصابيح الهدى)، وقد ألف عبدالملك كتبًا كثيرة تجاوزت الألف كتاب في فنون شتى كالفقه والحديث والسير والشمائل والتراجم والتاريخ والطب.
وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: عالم الأندلس عبدالملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى، وفقيهها عيسى بن دينار. قال ابن وضاح وغيره: لم يقدم الأندلس أحد أفقه من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لسانًا منه، يعني ابن حبيب.
قال أبو الوليد بن الفرضي: كان فقيهًا، نحويًّا، شاعرًا، عروضيًّا أخباريًّا، نسابة، طويل اللسان، متصرفًا في فنون العلم.
وعندما ذاعت شهرته وعرفت مكانته، أمر الأمير عبدالرحمن الأوسط بنقله إلى قرطبة، وجعله مشاورًا مع يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وبعد وفاة يحيى بن يحيى انفرد عبدالملك بن حبيب برئاسة العلم، وما زال – رحمه الله – في سؤدد حتى وافته المنية يوم السبت الخامس من شهر رمضان سنة 238هـ.
سرية لب بن محمد بن لب على ألبة (رمضان 291 هـ):
لب بن محمد بن لب (المتوفى عام 907 م) كان حاكم تطيلة ولاردة، وأحد زعماء بني قسي.
في عام واحد وتسعين ومائتين هاجم ألفونسو الثالث من ملوك النصارى أراضي لب، لكنه أجبر على فك الحصار والعودة، بعدما هاجم لب بقواته ألبة.
حيث خرج لُبُّ بن محمد إلى بايش من أحواز ألبة، وذلك في رمضان؛ فافتتح حصن بايش وما يليه، فلما بلغ ألفونسو دخول لُبّ بن محمد بحصن بايش، ولَّى هاربًا؛ خوفًا من لقائه.
سرية محمد بن عبدالملك الطويل على بنلوبة (رمضان 299 هـ):
محمد بن عبدالملك الطويل (المتوفى عام 302 هـ) هو والي “وشقة” من قبل الدولة الأموية في الأندلس في أواخر القرن التاسع الميلادي في فترة حكم الأمير “عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن“، واستطاع أن يكوِّن منطقة حكم شبه ذاتي في موضع ولايته، بعيدًا عن سلطة الدولة الأموية، وتحالف مع بعض أمراء النصارى والمسلمين في الأندلس؛ ليثبت حكمه لمناطق “وشقة” و”بربشتر” و”لاردة” له ولأسرته فيما بعد.
وفي رمضان من تسع وتسعين ومائتين قام محمد بن عبدالملك الطويل بغزوة استهدف فيها أراضي نسيبه “غاليندو أثناريز الثاني” في “أراغون“، ثم تحالف مع قوات عبدالله بن محمد بن لب القسوي، لتوجيه ضربة ضد بنبلونة، وحقق بعض النجاح في ذلك، حيث انتهى إلى حصن البربر؛ فأحرق ما حواليه، وهدم كنائس تلك المواضع، ثم احتل حصنًا من حصونه يعرف بشار قشتيله؛ ولما عرف أن “سانشو الأول” ملك نافارا تجهز لمقابلته والقدوم عليه؛ خرج في بعض أصحابه متسللاً، وعندما أيقن العسكر بهروب ابن الطويل، تخاذلوا؛ فكان سببًا لانهزام أهل الحصن، فلما بلغ عبدالله بن لب خبر هروبه، وأن ابن الطويل نكص عن ملاقاة سانشو، نزل بمن معه من المسلمين على حصن لوازة من حصون سانشو؛ فقتل جماعة منهم وكر راجعًا، ثم التقى في طريقه ببعض الخيل التي كان فيها سانشو؛ فقتل فيهم وسبى، رادًّا جيش سانشو عن أراضي المسلمين.
غزاة الأمير عبدالرحمن الناصر إلى معاقل جيان (رمضان 300 هـ):
في ثلاثمائة هجرية كانت غزاة الأمير عبدالرحمن بن محمد إلى معاقل جيان، وهي أول غزواته.
وعبدالرحمن الناصر لدين الله هو ثامن حكام الدولة الأموية في الأندلس، التي أسسها عبدالرحمن الداخل في الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق، وأول خلفاء قرطبة بعد أن أعلن الخلافة في قرطبة في مستهل ذي الحجة من عام 316 هـ، والمعروف في الروايات الغربية بعبدالرحمن الثالث؛ تمييزًا له عن جديه عبدالرحمن بن معاوية (عبدالرحمن الداخل) وعبدالرحمن بن الحكم (عبدالرحمن الأوسط).
وفور تولي الناصر الحكم واجهته العديد من الثورات والتمردات في ظل حالة الضعف التي عانت منها الدولة الأموية بوفاة عبدالله بن محمد، وطيلة فترة حكمه لم يسلم من لهيب تلك التمردات، وكان من أبرز هذه التمردات تمرد البربر وغيرها من القبائل في كورة جيان، وقرر الناصر الخروج بنفسه لإخماد ذلك التمرد، فبرز من قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 300، بجيش توجه به نحو الجنوب الشرقي نحو كورة إلبيرة، إلا أنه غير وجهته نحو كورة جيان وسط الأندلس، فاستولى على حصن مرتش، وأرسل قوة نجحت في استرداد مالقة، ومن مرتش توجه عبدالرحمن بجيشه نحو حصن المنتلون الذي تحصن به سعيد بن هذيل أحد زعماء المولدين، وحاصره إلى أن سلم سعيد بن هذيل الحصن بعد أن أمنه عبدالرحمن على حياته في رمضان 300 هـ.
ثم بدأ عبدالرحمن في انتزاع الحصون التي احتلها المتمردون الواحد تلو الآخر، فانتزع حصن شمنتان من عبدالله بن أمية بن الشالية، وحصن منتيشة من إسحاق بن إبراهيم، ثم سائر حصون كورة جيان من أتباع ابن حفصون من زعمائها الذين دخلوا في طاعة الأمير بعد أن عفا عنهم، بعدئذٍ توجه عبدالرحمن بجيشه جنوبًا نحو كورة رية معقل ابن حفصون، فأخضع سائر حصونها، ومنها إلى مدينة وادي آش، فاستردها وأخضع حصونها وسائر حصون جبل الثلج.
واصل جيش الأمير انتزاعه للحصون من أيدي الثائرين وإخضاعها؛ حتى بلغ جملة ما افتتحه عبدالرحمن في غزوته تلك سبعين حصنًا من أمهات الحصون، سوى توابعها من الحصون الصغيرة والأبراج، والتي وصل عددها إلى ثلاثمائة، ثم عاد إلى قرطبة يوم عيد الأضحى مكللاً بالنصر بعد ثلاثة أشهر من الغزو.
القضاء على ثورة مدينة لبلة (رمضان 303 هـ):
في سنة 303 هجرية تمردت مدينة لبلة بقيادة صاحبها الثائر عثمان بن نصر، الذي أعلن عصيانه للأمير عبدالرحمن الناصر ممتنعًا بها.
فقرر الناصر إرسال قائده الحاجب بدر بن أحمد إلى مدينة لبلة؛ فبدأ الحاجب يلاطف عثمان بن نصر ويبذل الأمان له ولأصحابه، ويعده بكل ما يحب، ولكن الثائر رفض كل عرض، وأصر على العصيان، فطوق بدر المدينة، وبرز له كثير من أهل الطاعة فأمنهم، وأبقاهم لديه، وجدَّ في مهاجمة عثمان وأصحابه إلى أن اقتحم عليه المدينة يوم الاثنين 20 رمضان سنة 303 هـ (فبراير 916 م)، وقبض على عثمان وصحبه وأرسلهم في الأصفاد إلى قرطبة، وأمن أهل المدينة، ونظر في مصالحهم، وقد نظم ابن عبدربه في فتح مدينة لبلة وفي مديح الناصر والحاجب بدر قصيدة، قال فيها:
خليفة الله وابن عم رسو 
ل الله والمصطفى على رسلِهْ 
هنَّتْكَ نعمى تمت سوابغها 
كما استتم الهلال في كمله 
وجه ربيع أتاك باكرُه 
يرفل في حَلْيه وفي حلله 
وأقبل العيد لاهيًا جذلاً 
يختال في لهوه وفي جذله 
نصر من الله قد تضمنه 
ينهض في ريثه وفي عجله 
يجري بشأو الإمام منصلتًا 
يسبق حضر الجياد في مهله 
قد وقف النكث والخلاف بها 
وقوف صب يبكي على طلله 
|
إقامة دار السكة داخل مدينة قرطبة (رمضان 316 هـ):
في عام ستة عشر وثلاثمائة هجرية، أمر الخليفة الناصر بإقامة دار السكة داخل مدينة قرطبة، لضرب الدنانير والدراهم، وولي خطتها أحمد بن محمد بن حدير، وذلك في 17 من شهر رمضان من هذه السنة، فقام بالضرب فيها من هذا التاريخ، من خالص الذهب والفضة، وبذل جهده في الاحتراس من المدلسين، فأصبحت دنانيره ودراهمه عيارًا محضًا، وقد كان ضرب النقد معطلاً قبل الناصر، وكان لهذا الإجراء أثره في تثبيت العملة واستقرار التعامل.
غزو ألبة (رمضان 322 هـ):
قام الخليفة الناصر في عام اثنين وعشرين وثلاثمائة بغزو أراضي ألبة والقلاع، وتوغل فيها، ففر النصارى من السهول، واعتصموا بالجبال، وكان أول ما استولى عليه من حصون العدو حصن المنار، وهو من أعظم حصون ألبة، فدمره المسلمون، ودمروا حدائقه، ولم تبق منها قائمة، وتردد المسلمون بعد ذلك في مختلف الأنحاء، وهم يدمرون في طريقهم كل شيء، حتى وصلوا إلى حصن أنة, فهدموه، وأتلفوا حدائقه ومصانعه، وكان ضمن أبنيته كنيسة فخمة، وضمن سكانه ثلاثمائة راهب، واجتاح الناصر سائر بقاع ألبة، ثم نزل على قلونية في شهر رمضان، فاستولى عليها، وكانت غاية الناصر أن يلتقي براميرو ملك ليون في موقعة ما للقضاء عليه، ولكنه حاول عبثًا أن يحمله على مغادرة قلاعه، والاشتباك مع المسلمين في معركة فاصلة، وكان راميرو يرى ما ينزله المسلمون تباعًا بأراضي مملكته من صنوف التدمير والتخريب، وهو عاجز عن أن يقوم بأية حركة لمنع الخليفة الناصر من الامتداد بقواته.
وأخيرًا اجتمع النصارى، ومعهم ملكهم راميرو، في قلعة مزورته الواقعة فوق ربوة وافرة الحصانة، على مقربة من قلونية، واستعدوا للقاء المسلمين؛ فعبأ المسلمون صفوفهم، واشتبكوا مع النصارى في معركة حامية، قتل فيها عدد من أكابر الفرسان النصارى، واستشهد عدد من المسلمين.
فتح قلعة أيوب (رمضان 325 هـ):
في منتصف شهر رجب سنة 325 هـ (مايو سنة 937 م)، بدأ عبدالرحمن الناصر استعداداته السنوية لغزوة الشمال، فخرج من قرطبة إلى مقاتلة أعدائه في جيش ضخم، وعلم عبدالرحمن أثناء سيره أن النصارى احتشدوا بأطراف الثغر الأعلى؛ لمناصرة حليفهم الخارج محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، وهم يحاولون في الوقت ذاته أن يزحفوا صوب طليطلة لإثارة الثورة فيها، فسار بجيشه إلى طليطلة؛ كي يؤمن أهلها، ويرهب النصارى، ونزل عليها، فلما علم النصارى بمقدمه ارتدوا مذعورين إلى الشمال.
وسار عبدالرحمن بعد ذلك إلى الثغر الأعلى من طريق وادي الحجارة، وأبقى قوة من جيشه في منطقة طليطلة؛ للسهر على النظام في تلك المنطقة، ورأى أن يبدأ بقلعة أيوب، وكان قد امتنع بها مطرِّف بن منذر التجيبي المعروف بأبي شويرب، وكان راميرو ملك ليون قد بعث لإنجاده ودعمه فرقة من فرسان ألبة والقلاع، فحاصر عبدالرحمن القلعة، وبعث يدعوه إلى الطاعة، ويؤكد له الأمان بخطه، فرفض مطرف أن يستجيب إلى هذه الدعوة، فهاجم عبدالرحمن القلعة، وبرز إليه مطرف وحلفاؤه، ونشبت بين الطرفين معركة شديدة، هزم على أثرها مطرف، وقتل، ولجأ أخوه “حكم بن منذر” في فلوله ومن معه من فرسان ألبة إلى القصبة، وامتنعوا بها، فاستمر الهجوم عليهم، وكثر القتل في المدافعين، حتى اضطر “حكم” أن يطلب الأمان لنفسه ولحلفائه النصارى، ليعودوا إلى بلادهم، ويلحق هو وأهله بالحضرة، فقبل الناصر، ونزل “حكم” ومن معه من القصبة، وأعفى عن النصارى المستأمنين وقُتل الباقون، ووقع فتح قلعة أيوب على هذا النحو في التاسع عشر من شهر رمضان من هذه السنة.
وكان فتح قلعة أيوب أول صدع خطير في ثورة بني تجيب، وكان بالقلعة – فضلاً عن مناعتها الطبيعية – عدة كبيرة من فرسان سرقسطة الأكابر، وخمسمائة من الفرسان النصارى لم ينج منهم سوى الخمسين الذين أمنهم الناصر، وقد أفاضت الشعراء في تهنئة الناصر بهذا الفتح، ومن ذلك قصيدة لابن عبدربه مطلعها:
يا بن الخلائف والصِّيدِ الصناديد 
ألقت إليك الرعايا بالمقاليد 
|
ورأى الناصر، قبل أن يسير إلى سرقسطة لقمع المتمردين بها، أن يقوم بجولة في أرض النصارى، فاتجه إلى أراضي ألبة والقلاع، فافتتح عدة كبيرة من حصونها تبلغ السبعة والثلاثين حصنًا، واعتزم بعد ذلك أن يعاقب قبائل “البشكنس” على عدوانهم، فسار إلى بنبلونة، وخرب معاهدها وحصونها، ومزق جموع “البشكنس“، وبعث فرقًا من جيشه إلى مختلف الأنحاء المجاورة فعاثت فيها وأصاب المسلمون غنائم كثيرة، وهرعت إليه “طوطة” ملكة نبرّة تقدم إليه خضوعها وتوبتها، فقبل الناصر اعتذارها وأقر ولدها “غرسية” ملكًا على نبرّة في طاعته وتحت حمايته، وكان ذلك في أواخر رمضان وأوائل شوال من سنة 325 هـ (أغسطس 937 م).
وساطة الناصر لإيقاف الحرب بين رؤساء القبائل بالمغرب (رمضان 328 هـ):
في شهر رمضان سنة 328هـ (يونيو 940م) انتدب الخليفة عبدالرحمن الناصر قاضي الجماعة “منذر بن سعيد البلوطي” للسفر إلى العدوة المغربية؛ للتوسط بين الزعيمين الخير بن محمد بن خزر وبين مدين بن موسى بن أبي العافية المكناسي؛ لإيقاف الحرب بينهما ومنع سفك الدماء، فنفذ منذر ما ندب له، وعالج الأمر بروية، فوفق في مهمته.
وفاة الخليفة عبدالرحمن الناصر وتولي ابنه المستنصر الحكم:
وفي عام خمسين وثلاثمائة هجرية (961م) اشتد المرض بالخليفة عبدالرحمن الناصر، وبقي فترة على ذلك، إلى أن توفي في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارته خمسين سنة وستة أشهر، وهي أطول مدة حكمها خليفة من خلفاء الإسلام، إذا استثني عهد المستنصر بالله الفاطمي بمصر.
ويعد عبدالرحمن الناصر من أعظم خلفاء الأمويين بالأندلس، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، وكان يشبه في حزمه وصرامته وبعد نظره بجده الأكبر عبدالرحمن الداخل، ويجمل ابن الأبار خواصه وخواص عصره في تلك العبارة: “وظهر لأول ولايته من يمن طائره، وسعادة جده، واتساع ملكه، وقوة سلطانه، وإقبال دولته، وخمود نار الفتنة على اضطرامها بكل جهة، وانقياد العصاة لطاعته، مما تعجز عن تصوره الأوهام”.
ويقول ابن عبدربه في وصف عصر الناصر، واعتزاز الإسلام بدولته:
قد أوضح الله للإسلام منهاجا 
والناس قد دخلوا في الدين أفواجَا 
وقد تزينَتِ الدنيا لساكنها 
كأنها ألبست وشيًا وديباجا 
يا بن الخلائف إن المزن لو علمت 
نداك ما كان منها الماء ثجَّاجا 
والحرب لو علمت بأسًا تصول به 
ما هيجت من حمياك الذي اهتاجا 
مات النفاق وأعطى الكفر رمته 
وذلت الخيل إلجامًا وإسراجا 
وأصبح النصر معقودًا بألوية 
تطوي المراحل تهجيرًا وإدلاجا 
أدخلتَ في قبة الإسلام بارقة 
أخرجتها من ديار الشرك إخراجا 
|
وخلف الناصرَ أكبرُ ولده الحكم المستنصر بالله، بعهد منه، وبويع الحكم في اليوم التالي لوفاة أبيه، في الثالث من رمضان سنة 350 هـ (16 أكتوبر 961 م)، وكان الحكم يومئذٍ في نحو الثامنة والأربعين من عمره.
قدوم سفارات النصارى على قرطبة في عهد المستنصر طلبًا للتحالف (رمضان 360 هـ):
غدت قرطبة قبلة المغرب الإسلامي في عهد الخليفة الناصر وخليفته المستنصر، وبدأت وفود ملوك النصارى في القدوم على خليفة المسلمين بالأندلس؛ طلبًا للتحالف والصداقة، وإبداءً لحسن النيات، وقد بدأ تقاطر هذه الوفود والسفارات من سنة 355 هـ (966 م) واستمرت عدة أعوام؛ دلالة على المكانة التي وصل إليها المسلمون في هذه الفترة.
ومن ضمن هذه السفارات ما حدث في شعبان سنة 360 هـ (يونيه 971 م)، حيث وفدت سفارة من أمير برشلونة الكونت “بوريل ابن شونير” Saunier على رأسها مبعوثه “القومس بون فلي” لتجديد المودة والصداقة، ومعهم ثلاثون أسيرًا من المسلمين الذين كانوا محجوزين بالإمارة، تقربًا من الخليفة، فاستقبلهم الحكم بالمجلس الشرقي من قصر الزهراء مرتين: الأولى في الرابع من رمضان سنة 360 هـ، والثانية في الثاني من شوال، واستمع إلى رسالتهم بالقبول والترحاب.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 360هـ (يوليو 971م) وصل قرطبة وفد قادم من عند أحد أمراء نصارى الشمال في غربي جليقية (ليون)، وذلك بغرض التحالف، فاستقبلهم المستنصر وأكرم وفادتهم.
وفاة الحاجب المنصور (رمضان 392 هـ):
هو حاجب الخلافة في عهد الخليفة هشام المؤيد بالله، وأكثر الرجال نفوذًا في عهده، حتى إنه كان الحاكم الفعلي للدولة الأموية بالأندلس في ذلك الوقت، ومصرف أمورها، ونجد أنه بعد وفاة الخليفة المستنصر وتولي ولده هشام المؤيد الخلافة، تولى الحاجب المنصور تدبير أمور الخلافة؛ نظرًا لحداثة سن هشام وعلاقة المنصور بزوجة الخليفة “صبح البشكنجية” أم الخليفة هشام المؤيد بالله، والتي كانت وصية على عرش ولدها الصبي بعد وفاة زوجها المستنصر.
وقد وطد المنصور الحكم لهشام المؤيد بالقضاء على خصومه من الصقالبة في البداية، ثم مباشرة أمور الخلافة بنفسه حتى إنه تفرغ لقتال النصارى الذين ظنوا في حداثة سن الخليفة هشام فرصة ذهبية للقضاء على الخلافة الأموية بالأندلس، وخاض معهم أكثر من معركة قوية دحر فيها كل ملوك النصارى دحرًا في الأندلس، حتى إن غزواته التي غزاها بنفسه بلغت 52 غزوة، لم يهزم في أحدها قط، وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل.
وتوفي محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور وهو ابن خمس وستين سنة في 27 رمضان 392 هـ في مدينة سالم، وهو عائد من إحدى غزواته على برغش، التي أصيب فيها بجروح، وكان قد أوصى بأن يدفن حيث مات، كان يشتكي علة النقرس، وقد ترك المنصور من الولد اثنين: عبدالملك وعبدالرحمن، غير ابنه عبدالله الذي قتل عام 380 هـ.
وقد تولى تدبير الأمر بالخلافة الأموية بنفسه فترة تقارب خمسًا وعشرين سنة، مثل فيها قمة الطموح الفردي والعبقرية البالغة، فقد تدرج الرجل من الطبقة الوسطى حتى طبقة الخلفاء، ووطد الأمر له ولأهله من بعده، وكان شفيعه في ذلك دأب مستمر وتفوق عظيم في القيادة، حتى إن الذاكرة النصرانية في إسبانيا ما زالت تحتفظ باسم “الحاجب المنصور” طويلاً في ذاكرتها المنسية عن مجد المسلمين.
وقد روى “ابن عذارى” عن نجدته للمسلمين أنه بلغه وجود أسيرات مسلمات لدى “غارسيا سانشيز الثاني” ملك “نافارا“، رغم أنه كانت بينهما معاهدة تنص على ألا يستبقي “غارسيا” لديه أسرى من المسلمين، فأقسم أن يجتاح أرضه لنكثه بالعهد، ولما خرج المنصور بجيشه، وبلغ غارسيا خروجه، أسرعت رسل غارسيا تستفسر عن سبب الغزو، فأعلموهم بخبر الأسيرات المسلمات، فردّهن غارسيا معتذرًا بعدم علمه بهن، وبأنه هدم الكنيسة التي كانت تحتجزهن كاعتذار منه على ذلك، فقبل منه المنصور ذلك وعاد بالأسيرات.
تولي ابن حزم الوزارة في عهد عبدالرحمن المستظهر (رمضان 414 هـ):
تولى أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، الفقيه الأندلسي القرطبي، تدبير دولة الخليفة عبدالرحمن المستظهر، الذي بويع بالخلافة يوم 4 رمضان سنة 414هـ (41 نوفمبر 1023م)، إلا أنه لم يمكث في هذا المنصب سوى سبعة أسابيع بسبب مقتل الخليفة المستظهر.. وبذلك فقد ابن حزم منصبه الوزاري، قال أبو القاسم صاعد: “كان أبوه – أي: أبو ابن حزم – من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، مدبر دولة هشام المؤيد بالله بن المستنصر، ثم وزر للمظفر، ووزر أبو محمد بن حزم من بعده للمستظهر عبدالرحمن بن هشام، ثم نبذ هذه الطريقة، وأقبل على العلوم الشرعية”.
عودة الحكم إلى بني أمية بالأندلس (رمضان 414 هـ):
بوفاة الخليفة هشام المؤيد، تنازع الحكم والرئاسة العديد من الأطراف في بلاد الأندلس، حتى غلب على الأمر البربر، الذين صاروا يولون الخلفاء ويخلعونهم، وصارت بيدهم مقاليد كل الأمور، وبذلك انهارت دعائم الخلافة الأموية نهائيًّا، بعد أن لبثت منذ عهد هشام المؤيد أربعين عامًا، ستارًا للمتغلبين من بني عامر، ثم شبحًا هزيلاً يضطرب في غمر الفتنة والفوضى.
وولي الحكم “القاسم بن حمود” من دولة بني حمود، التي تسلطت على مقاليد الحكم بعد بني عامر بالأندلس، غير أن القاسم لم يوفق في سياسته أيضًا، واصطفى البربر، ومكنهم من أهل قرطبة، فاشتد البربر في معاملتهم ومطاردتهم، وضاق أهل قرطبة في النهاية ذرعًا بتلك الحالة، فثاروا بالبربر، واستعدوا لقتالهم، وأعلنوا خلع القاسم في 21 جمادى الآخرة 414 هـ، وقاتلوا القاسم والبربر باستماتة إلى أن هزموهم في 15 رمضان 414 هـ.
ولما انهزم البربر عن قرطبة، اتفق رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، فاختاروا منهم ثلاثة، ثم اجتمعوا في المسجد الجامع؛ ليختاروا واحدًا من ثلاثة أمراء من بني أمية، وهم: سليمان بن المرتضى، ومحمد بن العراقي، وعبدالرحمن بن هشام، فتغلب عبدالرحمن المستظهر وأخذ الخلافة لنفسه من الأميرين الآخرين، ثم كانت القاضية حين استقبل المستظهر في قصره عددًا من فرسان البربر؛ تمهيدًا لعودتهم لتقلد أمور الحكم مرة أخرى، فثار أهل قرطبة وأنفوا منه، واقتحموا عليه القصر، وفتكوا به وآله، وبايعوا محمد المستكفي بالله في 3 ذي القعدة 414 هـ، وبذلك لم تمض على خلافة المستظهر بالله سوى 47 يومًا.